[حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية]
قبل أن أتجاوز هذه الآية فيها كلام مفصل وكلام كثير يتعلق بكلام بعض المفسرين حيث فسر قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) بأنها نزلت في نكاح المتعة.
فقوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) أي: من اللائي تزوجتموهن.
((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) معنى ذلك: أن المهر يلزم الرجل ويتأكد في حقه بدخوله بالزوجة.
فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) قالوا: إن هذه إشارة إلى نكاح المتعة.
((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: الأجر الذي يبذله لها.
((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، يعني: إن انتهى أجل هذا النكاح؛ لأن نكاح المتعة يكون مؤجلاً، فإذا انتهى ذلك الأجل فإنها في حل، وإذا مات هو لا ترثه، وإذا ماتت هي لا يرثها إلى آخره.
ونكاح المتعة: هو الزواج إلى أجل معلوم بلفظ المتعة كمتعتك، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى نكاح المتعة، ثم نسخت هذه الآية بما روى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع -يعني: في نكاح المتعة- ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها -أي: من كان عنده امرأة ممن نكحها نكاح المتعة فليخل سبيلها- ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً).
وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب وقال: (ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته).
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية -يعني: الحمير الأهلية-).
اختلف العلماء في بيان متى تم تحريم نكاح المتعة على أقوال: فمن قائل: يوم خيبر، استدلالاً بهذه الرواية المتفق عليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومنهم من قال: إنه تم تحريم المتعة في عام فتح مكة.
ومنهم من قال: بل هو عام حنين، وهذا القول الثالث هو بنفسه الثاني؛ لأن معركة حنين وفتح مكة متصلتان.
القول الرابع: أن نكاح المتعة حرم عام حجة الوادع، وهو وجه من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوادع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ، يعني: هذه الحالة تعرف عند علماء الحديث بسفر الوهم، وهو أن الراوي يسافر بوهمه وبخياله من موقع إلى موقع، فيبدل الأسماء أو الأماكن أو الوقائع.
والعلماء لهم طرائف في الترجيح عند هذه الحالات، ومنها: هذا الذي نحن بصدده، والصحيح أن المتعة حرمت عام فتح مكة كما في صحيح مسلم، ولو كان التحريم زمن خيبر للزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد لمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله في هذه الشريعة.
كما أن خيبر لم يكن فيها مسلمات، بل كان فيها يهوديات، ولم تكن قد نزلت آية المائدة التي فيها إباحة نكاح الكتابيات، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:٥]، لأن آية المائدة نزلت في حجة الوداع يوم النحر، وهي في سياق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، فلو كان التحريم في خيبر فمعنى ذلك أن النسخ حصل مرتين، وهذا لا يقع في الشريعة.
أما ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية أو الأنسية) فهذا الحديث ثبت بلفظين: أحدهما: هذا اللفظ الذي الذي سبق.
وهناك لفظ آخر: وهو الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
يعني: اللفظ الآخر: (أنه نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية يوم خيبر).
فإذاً يكون يوم خيبر فيه بيان تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية، وليس فيه بيان تحريم نكاح المتعة.
فإذاً هذا الجواب على من يستدل بأن تحريم المتعة حصل في خيبر.
والصحيح أنه حصل في فتح مكة، وهذا الحديث كما ذكرنا ثبت في الصحيحين بهذا اللفظ، وثبت أيضاً في رواية أخرى بالاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فكلمة (يوم خيبر) ليست لبيان تحريم المتعة، وإنما لتحريم لحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ربط بين تحريم الاثنين معاً.
ليس هذا فحسب، بل بعض الرواة اقتصر على رواية الحديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر)، فقصرها على هذه المرتبة الثانية من الخطأ الذي وقع ومن الغلط البين.
فإن قيل: فما سر جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الحديث بين الأمرين؟ يعني: علي جمع في الحديث بين النهي عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية.
فنقول: سر ذلك أنه كان يناظر ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، فناظره في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، وقال له: (إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر).
إذاً: كلمة يوم خيبر جاء في تحريم لحوم الحمر الأهلية وليست في تحريم نكاح المتعة كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس.
فروى علي رضي الله عنه الأمرين محتجاً عليه بهما لا مقيداً لهما بيوم خيبر.
لكن هل تحريم نكاح المتعة هو من باب تحريم الفواحش، أم أنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هي حرمت كتحريم الفواحش تماماً، والفواحش لا تباح بحال.
أما القول بأنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها فقط في حالة الاضطرار، فهذا القدر هو الذي نظر فيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ ابن عباس لم يبحها بإطلاق كما يزعم الشيعة، والشيعة إلى الآن يتمادون في موضوع نكاح المتعة كما هو معلوم عنهم، وهو من خبائثهم.
إذاً ابن عباس نظر إلى أنها لم تحرم تحريماً مطلقاً كتحريم الفواحش، والفواحش لا تباح بحال، وإنما ذهب إلى أنها تحرم عند الاستغناء عنها وتباح للمضطر، فهذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الإفتاء بحلها ورجع عنه، وكان ابن مسعود يرى مثل قوله، أو قريباً منه.
وقد روي أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال لـ ابن عباس رضي عنهما: (أتدري ما صنعت بفتواك -فتواه التي هي إباحة نكاح المتعة-؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، وكان من الشعر الذي قيل: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون ما بهذا أفتيت، ولا أحللت إلا مثلما أحل الله الميتة والدم).
إذاً معنى هذا الكلام: أن هذا هو القدر الذي اجتهد فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكما ذكرنا: فالإجماع منعقد على خلاف ذلك، يعني: الإجماع على تحريم نكاح المتعة.