[تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم)]
يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)) ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:١]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:١]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:٤١]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:٦٤]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً (يا محمد)، وإن كان ورد (يا نوح).
(يا هود).
(يا لوط).
(يا إبراهيم).
(يا موسى).
(يا عيسى).
وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
فالحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبوه إلى أمه، وهذا ملاحظ، وهو أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه رداً على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله، وإنما هو ابن مريم، فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ليستقل بإنزال المائدة.
قوله تعالى: ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)) هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: (سورة المائدة)، وها هنا قراءتان: الأولى: (هل يستطيع ربك) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك).
القراءة الثانية: (تستطيع ربك) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك.
فحذف المضاف، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال قوم موسى الرؤية حين قالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:٥٥] فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر على أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، أي: (هل يستطيع ربك؟).
فلا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصدوا بقولهم: (هل تستطيع) أي: (هل يسهل عليك) فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]، ولا شك في أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)).
إذاً (هل يستطيع) بسؤال عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره في أنهم شاكون في قدرة الله.
وقيل: المعنى: (هل يستطيع ربك) أي: هل يطيع ربك؟ وهل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو: هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فـ (يستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائدة، كـ (استجاب) و (أجاب)، و (استجب) و (أجب)، ويطيع بمعنى (يجيب) مجازاً؛ لأن المجيب مطيع.
ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني.
فقال: اللهم! اشف عمي.
فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك.
فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، فلأن فيه مشاكلة قرنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ.
وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أي أنهم كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا لا شك في أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل، كما في قصة الرجل -وهي ثابتة في الصحيحين- الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب.
فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزءاً منه في البر وجزءاً في البحر وجزءاً في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، وقال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له.
فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه.
وعلى أي الأحوال فبعض المفسرين قالوا: إنه على ظاهره، وإنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح.
قال القرطبي: وقيل: المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى.
قال القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:٥٢]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري، وحوارييِّ الزبير).
ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأمروا بأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! وهل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟! إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر، وهو أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:١٣٨]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:٢٦٠]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا
السؤال
(( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا))، أي: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين.
وإبراهيم عليه السلام لما قال له ربه جل وعلا: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين.
فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٧] يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي؛ لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات.
ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، وهو أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، فلا يدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن يقول -مثلاً-: اللهم! لا تجعلني ممن يردون النار.
فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً، كما قال تعالى وأقسم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١]، فكل الخلق يدخلون النار كما قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:٧١]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر.
فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة.
وفي معنى المائدة قولان: الأول: أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش: تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد فقوله: (إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي: المستعطى المسئول.
فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء.
وأما الخوان -بالكسر أو الضم: خوان وخُوان- فهو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، سواءٌ أكانت قصيرة أم طويلة.
أما المائدة فهي ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس فإنك تفتح هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، بمعنى أنها تسفر وتكشف بعدما كانت مضمومة.
فالمائدة كل شيء يمد ويبسط، هذا هو أصل كلمة (المائدة) فإذا أكلت على المنديل فهو المائدة، وإذا فرشت أو بسطت ثوباً فهذا الثوب هو المائدة.
وكان من حقه أن تكون الدال مضاعفة، أي: (مادَّة)، فجعلوا إحدى الدالين ياءً فقيل: (مايدة)، ثم صارت: (مائدة)، والفعل واقع به، فكان ينبغي أن تكون ممدودة، لكن خرجت في اللغة مخرج