[تفسير قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا)]
قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢].
هذا أيضاً فيه حذف، والتقدير: (لقد كنت في غفلة من هذا -أي: الموت- فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).
من المخاطب في هذه الآية؟ في المخاطب في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لقد كنت يا محمد- صلى الله عليه وسلم في غفلة من هذا، فهذه جملة معترضة أتي بها خلال أمر النبأ الأخروي؛ تنويهاً بمنة الإعلام والتعريف به، فهنا اعتراض، فإن سياق الكلام في وصف أحوال الآخرة، حيث يقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:١٩ - ٢١] ثم يذكر تعالى جملة اعتراضية هنا: لقد كنت -يا محمد- في غفلة من هذا؛ لبيان منة الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث أعلمه بهذه الأمور الغيبية عن طريق الوحي، وعرفه بها.
وليس هذا فحسب، بل إن بصره بها بصر شديد النفاذ يدركها في غاية الوضوح وغاية القوة، بل إن الله سبحانه وتعالى أوقفه على غوامض هذا الخبر وهذه الوقائع التي ستحصل في الآخرة، وقد كان ذهنه خالياً من علمها، بل كان أمياً لم يتعلم، ووصفه بالغفلة في سياق الامتنان، بمعنى خلو ذهنه عن هذا العلم الذي امتن عليه به، فهو يعلم ما لا يعلمون، والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا غطاءك بإنزاله، فبصرك حديد حيث تعلم ما لا يعلمون.
وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣] أي: كنت غافلاً عن هذا الخبر.
ومثله أيضاً قوله تبارك وتعالى: ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ))، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧] أي: كنت عارياً عن الوحي وعن العلم الذي أوحاه الله إليك، فهداك لهذا الوحي، وليس ((ضالاً)) كما يوصف غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: ((ووجدك ضالاً فهدى)) يفسره قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢] إذاً: القول الأول: إن المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي تنويهاً بمنة الله عليه بإعلامه بذلك وتعريفه به، وبيان شدة نفوذ بصره به، ووقوفه على غامضه.
وقوله: ((فبصرك اليوم حديد)) معروف عندنا استعمال: البصر ستة على ستة في أنه حاد، فكلمة ليس المقصود بها حديد المعدن المعروف، بل من حدة النظر وقوته وشدته.
وعلى القول بأن الرسول عليه السلام هو المخاطب بالآية لا نحتاج إلى أن نقدر جملة: (يقال له)، حتى يكون التقدير: ((وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)) يقال له: ((لقد كنت في غفلة من هذا))؛ لأن هذا السياق لا يكون يوم القيامة.
فالله سبحانه وتعالى يخاطب الرسول هنا كما في سورة الحجر: في سياق قصة قوم لوط، حيث قطع السياق وقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:٧٢]، فكذلك السياق هنا في ذكر أحوال الآخرة، ثم خاطب الله نبيه بقوله: ((لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ))، ثم رجع السياق من جديد للآخرة: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:٢٣].
القول الثاني: أن المخاطب به الكافر، وأن الكلام على تقدير القول، أي: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) يقال للكافر حينئذ: (لقد كنت في غفلة من هذا) الذي عاينته اليوم من الأهوال (فكشفنا عنك غطاءك) بأن جلينا لك ذلك وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته فزالت الغفلة عنها.
ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم:٣٨] وهذا أسلوب تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم! ففيها الإشارة إلى شدة السمع والبصر عندهم، وأنهم يدركون بسمعهم وأبصارهم حقائق اليوم الآخر.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢].
القول الثالث: أن المقصود هو الإنسان مطلقاً، أي: ((لقد كنت)) أيها الإنسان ((في غفلة من هذا)).
ويؤيده قول الله تبارك وتعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) فهذا العموم في قوله: (كل نفس) يؤيد القول بأن المخاطب هنا كل إنسان، والمقصود كشف الغطاء عن البر والفاجر، فكل يرى ما يصير إليه.
ولا شك أن الحجب سوف تنكشف يوم القيامة، ويرى الإنسان ما كان ينكره من قبل، أو ما كان يؤمن به بظاهر الغيب، فالغيب يصبح شهادة، فيرى الملائكة، ويرى النار، ويرى الجنة، ويرى الصراط، والموازين، ويرى كل الأشياء التي كانت في الدنيا خبراً، وكان يوقن بها عن طريق الإيمان بالغيب، أو كان يكذب بها لأنه لا يراها كما هو حال الملحدين الكافرين.
رجح شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله القول الثالث، وهو أن المراد بالخطاب هنا الإنسان مطلقاً.
قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله.
أي فكلمة (في غفلة) تفيد كأن شيئاً شمله وهو غارق فيه أو كأن شيئاً يحيط به تماماً.
قال: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو كأنها غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.