للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد مريب)]

قال تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:٢٥ - ٢٦].

ثم أضاف الإنسان إلى الكفر المبالغ فيه وإلى العناد والجحود ذنباً ثالثاً وهو أنه {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}.

(مناع للخير) يعني: للخير الكلي الجامع الذي هو دين الإسلام، فهو يبخل على نفسه بالدخول في الخير العميم الذي هو الإسلام.

وأحياناً يطلق الخير في القرآن الكريم على المال، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨]، وليس المراد حب الإنسان الأعمال الصالحة، فإن السياق يبين أن المقصود حب المال: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٦ - ٨].

والإنسان في القرآن الكريم عموماً يأتي في سياق الذم، والناس الآن يستعملون لفظة الإنسانية بمعنى الرأفة والرحمة والرفق بالناس، لكن هذا الاستعمال غير معروف في القرآن الكريم، فالإنسان في القرآن يقصد به الآدمي ناقص الهداية الربانية، فهو يرجع لأصله وطبعه الأصلي الذي هو البخل والسحت والظلم والجهل، وسائر صفاته التي ذكرت في القرآن {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢] {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١] {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:٦] {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:٢].

فلفظة الإنسان في القرآن الكريم هي في سياق الذم لهذا المخلوق الآدمي قبل أن يتحلى بالوحي، وقبل أن يهتدي بنور القرآن والسنة، فإذا انخلع عن التأديب الرباني والتهذيب المحمدي، فهو الإنسان الكنود الظلوم الجحود العنيد الكفار وهكذا.

فالسياق في هذه الآيات ذم: ((إن الإنسان لربه لكنود.

وإنه على ذلك لشهيد.

وإنه لحب الخير لشديد)) وهو يؤيد أن الخير المقصود به هنا المال، فمن صفات الإنسان شدة الحرص على المال، فهو جموع منوع.

وشاهد آخر يدل على أن الخير يراد به المال، قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:١٨٠] أي مالاً.

إذاً: قوله تعالى في هذه الآية في صفات الكافر: ((مناع للخير)) معناه: مناع للمال، أي: لا ينفق المال في أوجه الخيرات.

والخير إما كلي أو جزئي، فالخير الكلي هو الإيمان فمعنى ((مناع للخير)) على هذا أنه يستنكف عن أن يدخل في الإسلام، ولا يحسن إلى نفسه بأن ينقذها من النار، ويدخلها في أمة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم.

أو أنه مناع للخير الجزئي، وهو المال، وهذا قول ثان.

وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: إن الخير هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله؛ لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه.

فالأقوال ثلاثة.

وقوله: ((معتد)) أي: متجاوز للحد في الاعتداء على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً، قال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.

وقوله: ((مريب)) أي: شاك في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل على الوحدانية وعلى قضايا الإيمان.

وأدلة التوحيد مبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا.

{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: عبد معه معبوداً آخر من خلقه {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي: في عذاب جهنم.

ولا شك أن هذه الصفات هي ثمرات الكفر بالله سبحانه وتعالى.