للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان أن السنة وحي من الله عز وجل]

وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) حرف (عن) فيه تنزيه لمصدر كلامه في الدين، وأنه لا يصدر عنه كلام في الدين إلا عن الوحي لا غير، ولا يمكن أن يكون صادراً عن هواه، فقوله هذا أبلغ من القول بأن (عن) بمعنى الباء، وأقوى من هذا القول قول من قال في معنى الآية: ما ينطق في أي شأن من شئون الدين عن الهوى، فيستدل بهذا على أن السنة وحي كالقرآن؛ لقول الله تبارك وتعالى بعده مباشرة: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤] وجملة ((يُوحَى)) صفة مؤكدة لـ (وحي)؛ لأنه إذا جاءت ((يُوحَى)) بعد (وحي) فإنها قطعاً تقطع وتمنع وترفع احتمال أي مجاز.

وأيضاً لتفيد الاستمرار التجددي؛ لأن الوحي كان عند نزول هذه السورة مستمر، فقوله: (يوحى)، يعني: سوف يستمر ويتجدد نزوله إلى أن ما شاء الله سبحانه وتعالى.

وقوله: ((إِنْ هُوَ) أي: القرآن، مع أن القرآن لم يذكر آنفاً؛ لكن فُهم من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مطلقاً، أي: أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم متعلقاً بالدين فما هو إلا وحي يُوحى، واستُدل بذلك على أن السنن القولية من الوحي، وقواه بما في مراسيل أبي داود عن حسان بن عطية قال: (كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن).

واستُدل بهذه الآية أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، والصواب هو الأول.

والقاسمي رحمه الله يرجح أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم؛ لفهمه من السياق؛ ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، أي: أنه رد لقولهم: (افتراه)، والقرينة من أكبر المخصصات، وجلي أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب وأمور أخرى، فلابد من التخصيص قطعاً، وبأنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول.

يعني: مرسل حسان بن عطية.

وكلام الإمام القاسمي رحمه الله تعالى فيه نظر، فقوله: (إنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول) هذا لو كنا نحتج على أن السنة وحي فقط بهذا المرسل، ونحن في الحقيقة غير محتاجين وغير مفتقرين للمرسل؛ لأنه من أقسام الضعيف؛ لكن عندنا ما هو أقوى؛ عندنا أدلة من القرآن نفسه، وعندنا أدلة من السنة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى.

والحقيقة أننا نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة مع هذه القضية؛ لكن بعد أن نذكر أيضاً كلاماً للإمام ابن القيم في تفسير هذه الآية.

يقول ابن القيم رحمه الله: ثم قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]، ينزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عن الهوى، وبهذا الكمال هداه ورشده، وقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟! فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق.

ونفيه عن نفسه.

فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال.

يعني: ما يصدر عنه ما هو إلا بالوحي لا عن الهوى، وهذا أقوى من قولك: وما ينطق بالهوى؛ لأنه في هذه الحالة إذا قلنا: (بالهوى) فإن فيه تنزيهاً لنفس النبي عليه السلام أنه لا ينطق بالهوى، وإنما ينطق بالحق؛ لكن حينما نقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) يتضمن أمرين: يتضمن نفي الهوى عن مصدر نطقه.

ثم أيضاً نفي الهوى عن نفسه.

يقول ابن القيم ثم قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى): فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.

وآنفاً ذكرنا أن القاسمي يرجع أن الضمير في قوله تعالى: ((إِنْ هُوَ)) يعود إلى القرآن الكريم، وقال: لأن هذا هو الذي كان الكفار يزعمون أنه مفترى، وذكر أن القرآن هو المفهوم من السياق.

فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.

يعني المصدر المفهوم من الفعل ((يَنْطِقُ)) وهو النطق، فمعنى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وما نطقه إلا وحي يُوحى، هذا معنى كلامه.

يقول: وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن؛ فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يُوحى، وقد احتج الشافعي لذلك.

يعني: أن الإمام الشافعي ينتصر لهذا القول، لأن الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) تفسَّر بمعنى: أن كل ما نطق به النبي عليه السلام في الدين فهو وحي، سواء كان في القرآن أو في السنة.