[تفسير قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم)]
قوله الله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، فهذا الجزء من هذه الآية من آيات الأحكام، حيث يشيع عند علماء التفسير -خاصة المصنفين في أحكام القرآن- الاستدلال بهذه الآية الكريمة في مسألة فقهية، وهي: هل يجوز لمن دخل في قربة نافلة أن يخرج منها قبل إتمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، قالا: له -إذا شرع في نافلة- أن يخرج منها قبل أن يتمها إلا في نافلة الحج والعمرة، فإنه يجب عليه إتمامهما، ويستدلون على ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:١٩٦]، فمن شرع في نافلة حج أو عمرة وجب عليه إتمامها.
وأما الصلاة والصوم فإنه يستحب له إتمامهما ولا يجب عليه، وقالوا: إن المتطوع أمير نفسه، كما سيأتي في الأحاديث، فإلزامه إياه بالإتمام مخرج عن وقت التطوع، فالله تبارك وتعالى يقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:٩١]، فهذا محسن أي: متطوع قطع ما لا يجب عليه أصلاً، فلا حرج عليه في ذلك.
وقالوا: إن لفظ هذه الآية: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، وإن كان عاماً يعم كل الأعمال، سواء كانت نافلة أو فريضة، وسواء كان حجاً أو عمرة أوغير ذلك، إلا أن هذا العموم مخصَّص؛ لأن التطوع يقتضي تخييراً، فهو مخصَّص بالأدلة التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى.
ومن الأدلة التي استدل بها الشافعي وأحمد على جواز ذلك: أنه قد ثبتت بعض الأحاديث التي فيها أن الإنسان إذا دعي إلى وليمة نكاح وكان صائماً فينبغي له أن يجيب فإجابة الدعوة أن يذهب إلى مكان الدعوة تقديراً لأخيه، وإدخال السرور عليه، فيجب عليه أن يجيب حتى لو كان صائماً، لكن لا يجب عليه أن يأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع.
القول الثاني: قول الإمامين أبي حنيفة ومالك، فقد قالا: ليس له ذلك، فإذا شرع في نافلة فإنه يجب عليه الإتمام، فإذا أبطلها وجب عليه قضاؤها، ودليلهم عموم قوله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما.
وأجاب الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أدلة الشافعي وأحمد في قولهما: إن المتطوع أمير نفسه، فقالا: إن المتطوع أمير نفسه لكن ذلك مالم يشرع، فهو: أمير نفسه في أن يبتدئ بالفعل أو لا يبتدئ، وأما إذا شرع فيه فليس أمير نفسه، بل قد ألزم نفسه بالإتمام؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١]، ولعموم قوله عز وجل هنا: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)).
وإذا كان متطوعاً في صيامه فله أن يفطر، خاصة إذا ألحّ عليه الداعي، أو كان قد تكلف له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر).
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا، قال: فإني صائم، ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حَيْس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله! إنه أهدي لنا حَيْس، فخبأت لك منه، قال: أدنيه، -أي: قربيه - أما إني أصبحت وأنا صائم، فأكل منه، ثم قال: إنما مثَل المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها)، ولم يذكر هنا قضاءً؛ بناء على أنه لا يجب قضاء النفل.
وهذا هو الراجح، أي: ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر، وصم مكانه يوماً إن شئت) وفي هذا مراعاة للأدب، وهو أنه إذا كان يشق على صاحب الدعوة ألا تأكل من طعامه، وكنت في صيام نافلة، ففي هذه الحالة الأفضل لك أن تفطر؛ إدخالاً للسرور على أخيك المسلم، وهذا في صيام النافلة فقط.
وقوله: (إن شئت) يدل على التخيير، وأنه لا يجب عليه قضاء ذلك اليوم.
وكذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: فجاء سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب المهنة، وتاركة لملابس الزينة -، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعامه، فقال له سلمان: اطعم -أي: كُل- قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه - وهذا هو الشاهد، أنه أكل معه -، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وأْتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، قال: فقاما فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، مثلما قال سلمان، وفي رواية: قال له النبي صلى الله عيله وسلم: صدق سلمان) , فأقر ما قاله سلمان لـ أبي الدرداء.
إذاً: فهذا هو الراجح في هذه المسألة، وهو: أن من دخل في قربة فإنه يجوز له بعد الشروع فيها الخروج منها قبل إتمامها، ولا يجب عليه القضاء إلا في نافلة الحج والعمرة؛ للنص على ذلك.