للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين أمر الله القدري والشرعي]

قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٥]، هذا أمر كوني قدري، وأمر الله سبحانه وتعالى نوعان: الأمر الشرعي الإرادي الديني، والأمر الكوني القدري، فالأمر الشرعي الإرادي كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:٩٠]، وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨]، فهي أوامر فيها تكليف.

أما الأمر الكوني القدري فمثل قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، وقوله عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:٥٠]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:٤٧]، وقال: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:٢١]، وقال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:١٦].

والأمر الشرعي الإرادي والأمر الكوني القدري جمعهما الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤]، فالخلق متعلق بالربوبية، والأمر متعلق بالألوهية؛ فالأمر الشرعي الإرادي الديني متعلق بالألوهية وبالشرع.

إذاً: الأمر الشرعي هو شرعه ودينه، وهذا الأمر قد يعطيه الفجار والفساق.

أيضاً الأمر الشرعي يتعلق بالمحبة والرضا، فالله لا يأمر أمراً شرعياً إلا بما يحبه ويرضاه، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٢٨]، فالأمر الشرعي متعلق بألوهيته وشرعه ودينه، أما الأمر الكوني القدري فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وهو قضاؤه وقدره وفعله.

والأمر الشرعي الإرادي الديني قد يعطيه الفجار والفساق، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس مثلاً بالصدق، وببر الوالدين، وبالعدل والإحسان، فهل لابد أن يقع مادام الناس أمروا به؟ لا، فهذا أمر شرعي كلف الله العباد به، لكن قد يخالفه البعض ويمتثل الأمر البعض الآخر، أي: قد يتمرد على هذا الأمر الكفار والفساق، بخلاف الأمر الكوني القدري فإنه لا يمكن لأحد أبداً الخروج عن حكمه.

إذاً: الأمر الشرعي الإرادي الديني يتعلق بالمحبة والرضا، أما الأمر الكوني القدري فلا يتعلق بالمحبة والرضا مطلقاً؛ لأن هذا أمر يعم ما يحبه الله وما لا يحبه الله، ولابد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف.

إذاً: الأمران غير متلازمين، فقد يقضي الله سبحانه وتعالى ويقدر ما لا يأمر به وما لم يشرعه سبحانه وتعالى، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه، ولا يقدره.

إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، بمعنى: أن الحكم الكوني أو القدري مع الحكم الشرعي يجتمعان في كل ما يقع من العباد من طاعات وإيمان وغير ذلك من هذه الأمور التي هي أولاً: حكم شرعي؛ لأن الله أمر بها، ولأن الله يحبها، ويجتمعان في أنها أيضاً داخلة في إرادته الكونية العامة، فهنا اجتمعا فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم.

وهل ينتفي الحكمان معاً الشرعي الإرادي والكوني القدري؟ نعم ينتفيان فيما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، فإن الله لا يأمر بالكفر، وهذه الأشياء بالذات لم يقدرها كوناً وقدراً.

وقد ينفرد الحكم الشرعي والقضائي الديني فيما أمر الله به وشرعه، ولكن لم يفعله المأمور، فهنا وقع الحكم الشرعي والقضاء الديني، لكن لم يقع الأمر الكوني القدري؛ لأنه لم ينسبه ديناً.

ومتى ينفرد الحكم الكوني القدري؟ ينفرد فيما وقع من المعاصي، وهذا وقع من حيث كوناً وقدراً، لكن هل يقع بشرع الله وإرادته الشرعية؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بذلك.

إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإن الله لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، ولا يأمر إلا بالأشياء التي يريدها ويحبها مثل: أمره الكافر بالإيمان شرعاً وإن كان لم يوفقه له كوناً وقدراً.

كذلك أمر خليله عليه السلام بذبح ولده شرعاً، لكنه ما أراده كوناً وقدراً، بدليل أنه لم يقع.

وأمر رسوله بخمسين صلاة، لكنه لم يرد ذلك كوناً وقدراً.

والله سبحانه وتعالى يحب إيمان الكفار، ولكنه سبحانه اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح.

ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن هذا التدبير لا يقتصر على عاد، بل هو منتظم لكل من كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، يقول سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:١٣] أي: الكافرين إذا تمادوا في غيّهم وطغوا على ربهم سبحانه وتعالى.