[أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى:(وما كان قولهم إلا أن قالوا)]
يقول الرازي: فيه دقيقة لطيفة: وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، إلى آخر الآية سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان، وأجعلك حبيباً لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى النصر والتمكين والعزة والرفعة إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز له سبحانه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وعلموا أيضاً أن النصر منوط بالطاعة، حينئذ قالوا:((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) أي: الذنوب التي بسببها تصبح الدولة والغلبة لأعدائنا، كما يقول الشاعر: بذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا فكل المصائب التي تحل بالمسلمين في كل زمان، اعتاد الناس على أن ينظروا فيها إلى ظلم الحكام، ولا يلتفت كثير من الناس إلى حقيقة أن تسليط هؤلاء الظالمين على المسلمين في كل زمان ومكان إنما هو بسبب ذنوبهم، ودليل ذلك في قوله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:١٢٩]، فالله عز وجل يولي ظالماً على الظالمين، ولولا أن الناس ظالمون لما عوقبوا بهذا السلطان، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -وذكر هذه الذنوب وعقوبتها ومنها-: إلا ابتلوا بشدة المئونة، وجور السلطان عليهم)، يعني: أن المعاصي تكون عقوبتها أحياناً تسليط الظالمين على الرعية، ولذلك لما عوتب بعض الخلفاء أنه لا يسلك بهم سنن عمر بن الخطاب وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال لهم: لو كنتم أنتم مثل الرعية التي حكمها أبو بكر وعمر لكنت أنا مثل أبي بكر أو مثل عمر، لكن ابتليتم بي وابتليت بكم.
أو كما قال رحمه الله تعالى.
ويشيع على لسان العلماء قولهم: عمالكم أعمالكم، أي: كيفما تكونوا يولى عليكم.
وصف الله حال فرعون وقومه قال:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[الزخرف:٥٤]، فلا ينبغي أن نلتفت فقط إلى ظلم الظلمة وطغيانهم، وإنما ينبغي أن نلتفت إلى أننا سبب في ظلمهم لنا، وسر هذا الالتفات وأهمية هذا التشخيص هو أن نعرف من أين أُتينا، فنبادر إلى العلاج الصحيح، وهو كما فعل هؤلاء الربيون:((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)).
((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم والنصر على أعدائهم، فسألوه مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على عدوهم، فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف، وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كانت المحن في الجهاد أو في غيره، كما قال تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرعد:١١].
إذاً: التحول والتغيير ينبغي أن يبدأ من أنفسنا، كل إنسان يراجع نفسه ويفتش لعل ذنباً يفعله أو معصية يرتكبها، أو إسرافاً أو تجاوزاً للحد، هو السبب في كل المصائب التي تعم المسلمين.