[تفسير قوله تعالى: (سيذكر من يخشى ثم لا يموت فيها ولا يحيا)]
قال تبارك وتعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:١٠].
قوله: ((سيذكر)) أي: سيقبل التذكرة وينتفع بها من يخاف عقاب الله على الجحود والعناد بعد ظهور الدليل.
وفي قوله: ((سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)) حذف المفعول وهي التذكرة.
ثم قال عز وجل: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:١١] يعني: يتجنب التذكرة الأشقى.
قوله تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:١٢] أي: العظمى ألماً وعذاباً.
قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:١٣] أي: لا يهلك فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه.
قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوعه في شدة شديدة، قالوا: لا هو حي ولا ميت، فجاء على مألوفهم في كلامهم قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}، وقوله: ((ثم)) هنا للتفاوت الرتبي إشارة إلى أن سبيله النار الكبرى، ليس هذا فحسب بل هناك ما هو أعظم وأشد رتبة وهي أن هذا عذاب خالد دائم لا ينقطع أبداً.
وفي الحقيقة لو أن القلوب فقهت هذا المعنى الخطير لذهلت وبهتت وتحيرت وشابت الرءوس، فينبغي أن نتأمل هذا المعنى، من يستطيع أن يدخل النار أو يضع جزءاً من يده مثلاً داخل النار أو وجهه لا نقول: لمدة ساعة أو يوم كامل، وإنما لمدة دقيقة أو ثانية؟! من يتحمل ذلك؟ لا يستطيع أحد ذلك.
فعذاب النار -والعياذ بالله- في غاية الخطورة، وليس هذا كلاماً للتخويف، بل هو حقيقة، ومن مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى وعدله وجود هذا العذاب، والملاحدة الزنادقة يؤولون آيات القرآن تأويلاً عجيباً جداً، يقولون: إن عذاب النار المذكور في النصوص الشرعية ليس حقيقياً، وإنما الله عز وجل يخوف بها مجرد تخويف فقط! وهذا كفر وزندقة وتحريف وإلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الخلود في النار أشد من أن يدخل الواحد النار ويحترق فيها ويموت وانتهى، فالمعذب فيها ليس له نهاية، فالأمر خطير، فياويل الكافر الذي يكفر بالله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاه الله العقل وأرسل الأنبياء وأنزل الكتب! لقد جاهد الصحابة رضي الله عنهم الكفار وفتحوا البلاد وضحوا بالدماء والأموال والأولاد والأنفس من أجل تبليغ دين الله وإيصال الحجة للناس، كذلك العلماء اتجهوا لتحقيق العلم وتقييده وبذله وتعليمه، وتناقلوه جيلاً عن جيل؛ كي تقوم الحجة، والكرة الأرضية لا تخلو أبداً من حجة الله، فالحجة قائمة، والقرآن موجود.
فأي كافر على ظهر الأرض ممن سمع عن دين الإسلام يستطيع أن يبحث ويفتش حتى يصل إلى الدين الحق، فليس هناك سلاسل ستقيده وتمنعه عن الوصول إلى الدين الحق، كل من أراد الحق بإخلاص فإن الحق متاح وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ولكنهم يعرضون ليس هذا فحسب، بل يصدون عن سبيل الله، ويريدون إطفاء نور الله سبحانه وتعالى بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
إن الكافر نوى عن إصرار وتعمد أنه ما دام حياً فسوف يكفر بالله إلى الأبد، فلذلك كان الجزاء من جنس العمل، فعوقب بالخلود في النار إلى الأبد، كذلك المؤمن أطاع الله وصبر على البلاء وهو لا يدري متى ينتهي عمره، فهو يطيع الله وينوي طاعته إلى الأبد، وليست الطاعة مؤقتة أو مؤجلة بأجل؛ ولذلك كوفئ بنعيم الجنة إلى الأبد بلا انقطاع وبلا نهاية، فتخيلوا مدى خسارة الكفار الذين يقول الله فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:٦٣]، وقال: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:١٥].
ونار الآخرة ليس فيها من نار الدنيا إلا الأسماء، مع البون الشاسع بين هذه وتلك.
وحين يتيقن الكافر من الخلود فيها يتمنى حينئذ أن يرجع إلى الدنيا ويكون مسلماً كما أخبر الله عنه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:٢].
إذاً: عذاب النار مهما حاولت أن تتخيله هو أفظع مما تتخيله والعياذ بالله، فلابد من الوقوف كثيراً عند قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة:٨]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:٢٠] ((مؤصدة)) أي: تغلق عليهم ولا تفتح ولا يستطيع أحد أبداً الهروب منها.
أعظم أمنية للكافر الذي يعذب في النار الموت، لكن لا يمكن أبداً أن يموت؛ لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:١٣]، وقال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦].
وهذه الآية من آيات الله سبحانه وتعالى التي فيها إعجاز علمي؛ لأن الجلد هو مكان الإحساس، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا وإياكم من أهوالها.