للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خبر عمرة القضاء]

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد.

قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار وأصحابه يلبون، فلما كان قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم -وهي العلامات التي توضع تحدد حدود للحرم- بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟!) قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: (لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج) فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرج رءوس الكفار من مكة -أي: من شدة الحقد والغيظ خرجوا من مكة- لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً.

وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول: باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف -أي: من الهزال والضعف الذي نزل بهم- فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، فأصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة -يعني: نتقوى بها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحِجْر، فاضطبع رسول صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: (لا يرى القوم فيكم غميزة)، فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط؛ فكانت سنة، والمقصود بذلك الرمل، وقد كان المشركون جلسوا في الجهة الشمالية التي تقابل الحِجْر يراقبون الصحابة وهم يطوفون، فالصحابة رملوا الثلاثة الأشواط الأولى؛ ليظهروا الجلد والقوة لئلا يشمت بهم الكفار، وقد كان الصحابة متعبين، فكانوا يرملون في الجهات الثلاث، ثم في الجهة الرابعة التي هي الجهة اليمانية، كانوا يستترون بالكعبة، فمن ثم كانوا بين الركنين يمشون ليستريحوا من هذه الهرولة، حتى لا يشمت بهم المشركون، فصارت سنة بعد ذلك، فهذا هو سبب هذه السنة، وهذا مثل سبب مشروعية السعي حينما سعت هاجر.

وروى الإمام أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب -أي: أضعفتهم- ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون).

وفي رواية: (ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: كانوا يمشون في المنطقة اليمانية؛ لأنه لو أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها لكان في ذلك مشقة شديدة عليهم، ولم يستطيعوا أن يكملوا، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.