[تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)]
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:٦] يقول الله تبارك وتعالى وهو يعيد الكلام في ذكر الأسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأسوة هنا: اسم كان، وهذا التأنيث جائز، بدليل أنه جاء في الآية التي قبلها: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) فكانت للتأنيث، أما هنا فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فهذا يدل على أن التأنيث جائز.
((لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) وإعراب (لِمَن) بدل من قوله تعالى: (لَكُمْ).
وهذا الأمر بالتأسي بإبراهيم وأصحابه لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المصلحين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداءهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، فإن الحق لا يقوى إلا باعتصام أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة، وفي إبدال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} من (لكم) دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأنّ ترْكه مؤذن بسوء العاقبة.
إذاً: فمعنى ما سبق: أن من تورط وتلطخ بموالاة الكفار فإنه ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الذي يرجو الله واليوم الآخر ويؤمن بذلك، ويخاف الحساب، ويذكر الله، ويستقيم على دينه؛ يلزمه أن يبغض أعداء الله، ويتبرأ من الكفار، فإذا وقع ذلك من شخص فإنه يشير إلى سوء عقيدته، ومعنى ذلك أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
ولذلك عقبه الله بقوله تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:٦] أي: من يتول عما أمر به، ويوالي أعداء الله عز وجل، ويلقي إليهم بالمودة، فإنه لا يضر إلا نفسه، والله عز وجل غني عن إيمانه به وطاعته، وهو المحمود على كل حال.
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموماً، ويحتمل أنه تولي الكفار وموالاتهم.
وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
قال ابن عباس: غني: كمل في غناه، ومثله قوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن:٦]، وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموماً وخصوصاً: فجاء في خصوص الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٩٧]، فالله لا ينتفع بعبادة الناس، ولا يحتاج إليها.
وجاء في العموم قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:٨] لأن أعمال العباد لأنفسهم والله لا ينتفع بها شيئاً كما قال عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:٦]، وكما جاء أيضاً في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً).
وقال تعالى مبيناً غناه المطلق: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:٢٦].