[السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم]
أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم.
والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:١٩ - ٢١]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام.
وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:٣٨ - ٤٧]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم.
ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن القيم: فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان.
فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان.
لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس.
يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك.
يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ.
يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى.
يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده.
يقول ابن القيم: فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:١٩ - ٢٠]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن.
أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم.
يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة.
فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى.
فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:١٨] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.