[تفسير قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)]
ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٢٨].
الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد.
فما الذي يدفع الناس إلى أن يسوغوا ما يرتكبونه من معاصٍ إلا الخوف على الأولاد والأهل؟ وما الذي يدفع المرتشي إلى الرشوة؟ يريد أن يرضي زوجته وينفق على أولاده.
وما الذي يدفع الكذاب إلى الكذب؟ حب الأهل والأموال والأولاد.
وما الذي يدفع إلى اقتحام الشبهات وتعاطي الشهوات؟ وما الذي يزين للناس هذه الخيانة التي نهي عنها في هذه الآية؟ إنه حب الأولاد وحب الأموال.
قال الرازي: فلما كان الداعي إلى الإقدام على خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب، فرب عدو يلبس ثياب الصدق، قال عز وجل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٢٧ - ٢٨].
فقوله: ((فتنة)) يعني: محنة من الله سبحانه وتعالى ليبلوكم؛ لأننا في الدنيا في دار الابتلاء وفي دار الامتحان، والآخرة هي دار ظهور النتائج، فقد يخفى علينا حقيقة أو عاقبة ما نفعل من أعمال؛ لأننا مازلنا في دار الابتلاء والامتحان، ولذلك يختبرنا الله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥].
وكلمة (فتنة) مأخوذة من الفتن، يقال: هذا دينار فتين، أي دينار محروق، وذلك أن خام الذهب يكون مختلطاً بشوائب كثيرة جداً، ولذلك فإن بعض الأماكن قد يكون فيها ذهب، لكن تصنيع الذهب وتنقيته من الخامات يكلف أكثر من قيمة الذهب، فلذلك يعرضون عن محاولة استخراج الذهب من هذه الأماكن.
فإذاً: المعدن الخام الذي تخالطه الشوائب إذا أردنا أن نستفيد منه، ونستخرج منه الذهب نصهره في الفرن؛ لأنه إذا صهر يتميز، قال عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧]، فعملية صهر الذهب تسمى عملية الفتن، فالفتن هو: صهر الذهب الخام كي يتميز الذهب الخالص عن الشوائب التي تخالطه، ومن ذلك أخذت كلمة (الفتنة) في الشرع، كما قالوا في الإمام أحمد: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر.
أي أن الإمام أحمد أدخل في فتنة القول بخلق القرآن فما زادته الفتنة إلا صلابة وإيماناً وثباتاً.
فالفتنة هي اختبار، وهي كالفرن تماماً؛ لأن الله عز وجل يميز بها الخبيث من الطيب، فكل ما يعرض للإنسان من بلاء من أجل اختباره وامتحانه فهو فتنة، قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢]، أي: دون أن يبتلوا ويمتحنوا.
ومن هذه الفتن الأموال والأولاد، فحب المال والولد فتنة، بمعنى: أن العداوة عداوتان: عداوة ظاهره وعداوة باطنة، فالعداوة الظاهرة كالشخص الذي يكاشحك ويظهر لك العداوة، وهذا يقال له العدو الكاشح، فأنت تعرفه، وهناك عدو أخطر، وهو شخص تحبه، لكنه يفتنك، بمعنى: أنه بسبب حبه يصرفك عن حب الله ورسوله، ويوقعك في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن ثمَّ يفسد عليك دينك، فيلتقي في النتيجة التي تترتب على محبته مع العدو الظاهر؛ لأن هذا يؤذيك وهذا أيضاً يؤذيك في دينك.
فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((وَاعْلَمُوا))، وها اللفظ دليل للشعار الذي يرفعه الناس دائماً: اعرف عدوك.
فإن الإنسان قد يكون له عدو شديد الإيذاء له وهو لا ينتبه لعداوته، كما قال عز وجل عن المنافقين: {لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:٦٠]، فلذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى منهم؛ لأن العدو الخفي أشد في نكايته من العدو الظاهر؛ لأنك تتقي العدو الظاهر وتحذر منه.
وهكذا عداوة الأهل والأولاد للإنسان من حيث إفساد دينه عليه، فلذلك نبه الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من الناس لا يتفطنون لهذه العداوة، ولذلك صدرت الآية بقوله: ((وَاعْلَمُوا))؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلمون، ولا يستحضرون أن الأموال والأولاد فتنة.
فهذا من باب: اعرف عدوك، وكثير من الناس يتمادون في طاعة إبليس وهم لا يشعرون أنهم جنود لإبليس ومطيعون لإبليس، مع أن الله سبحانه وتعالى لخفاء هذه العداوة بيّن أننا لا نرى إبليس أمامنا عدواً، فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧]، فبلا شك أن مثل هذا العدو خطير.
فمثلاً: سمعنا كثيراً عن أسطورة وخرافة طاقية الإخفاء، فتخيل لو وجدت حرب بين المسلمين واليهود، وافترضنا -جدلاً- أن من لبس طاقية الإخفاء اختفى، فأي نكاية يمكن أن يحدثها هذا باليهود، فإنه يدخل في صفوفهم دون أن يروه، ويفعل بهم ما يفعل وهم لا يرونه، فتكون النكاية شديدة؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه.
فاستحضر أنت إذاً أن هذا العدو الخفي لابس طاقية إخفاء، والله سبحانه وتعالى قد حكم وقضى فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧]، فانظر إلى إبليس وجنوده إلى أي مدىً يستطيعون أن يوقعوا الأذى بالإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ومن بركة الوحي الذي أنزله أن أعلمنا بعداوته، فهو عدو لا نراه، ولكنه شديد العداوة لنا، وإن أي عدو آخر يمكن أن تعقد معه عقداً للمصالحة، أو تحسن إليه، فالإحسان له أثر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤].
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن علينا معشر المؤمنين أن نيأس من أن يكون هذا الحال هو حالنا مع إبليس، فلا يوجد سبيل على الإطلاق للصلح مع إبليس، ولا يمكن عقد مهادنة معه ولا مصالحة، فالإحسان إليه لا يمكن أن يؤثر فيه، بل يزيده عداوة وحسداً، فبين الله سبحانه وتعالى أن مثل هذا العدو لا يوجد حل معه سوى أن نتخذه عدواً، فقال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:٦]، وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:٥٠]؛ لأنه عدو خفي.
ومن الأعداء الأخفياء: الأهل والأموال والأولاد، فالولد في الظاهر هو ثمرة فؤادك وفلذة كبدك، لكنه إذا فتنك عن الدين وكان سبباً في ركوب الشبهات والمحرمات وخيانة الله ورسوله فإنه عدو، كما فعل أبو لبابة رضي الله عنه؛ فإنه كانت له مصالح عند اليهود؛ حيث كان عندهم الأولاد والأموال، فخشي عليهم، وكما فعل حاطب بن أبي بلتعة في القصة المعروفة، فهذه عداوة خفية، وهي شديدة النكاية؛ لأنها غير ظاهرة، وأغلب الناس لا يلتفتون إليها، فأحدهم يعتبر أن هذا عذر مقبول، وأنه حين يقبل الرشوة سوف يؤكل الأولاد، فبسبب ذلك يقبل الرشوة، ويسافر إلى بلاد الكفار، ويقول: سوف نأتي بمال ليأكل الأولاد منه، وأنا سوف آتي بمال وأثمره.
ويغفل عن أن هذا المسوغ الذي يذكره قد حذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نضعه في اعتبارنا حينما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٢٨].
فقوله: ((فِتْنَةٌ)) يعني: محنة من الله، ليبلوكم هل تقعون بهما في الخيانة أو تتركون لهما الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا تلهون بهما عن ذكره، فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الإنسان من الاختبار بهم.
ويجوز أن يراد بالفتنة: الإثم والعذاب.
وذلك باعتبار أن الأولاد والأموال سبب لحصول العذاب إن أدوا إلى خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم: قد أمر الله بالعلم بذلك.
يعني: أن هذه الحقيقة أمرنا الله بأن نعلمها، وأنها مما ينبغي أن نتعلمه، ونتنبه له، ونتفطن إليه.
فكيف نحصل هذا العلم؟ نحصل هذا العلم بالتفكر في أحوالهما وزوالهما، ونعلم أن المال غادٍ ورائح، وضيف زائل، والأولاد كذلك، ولا ينفعك إلا عملك الصالح.
فطريق العلم بما أمرنا الله بأن نعلمه في هذه الآية: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، بالتفكر والتأمل في أحوالهما وزوالهما وقلة الانتفاع بهما، وكثرة الضرر منهما، وأنه قد يعصى الله بسببهما، صحيح أن هناك محبة فطرية للمال وللأولاد، لكن هذه المحبة إذا كانت على حساب الدين فهي تتحول إلى فتنة وإلى سبب من أسباب العذاب.
وقوله سبحانه: ((وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) يعني: لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد، فلم يورط نفسه من أجلهما، وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة، في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:٩]، قيل: هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.