للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)]

قال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٢٨].

(ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي: مخلصين لك وجوهنا، من قوله: أسلم وجهه لله، أو مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم واستسلم، إذا خضع وأذعن، والمعنى: أي زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك، (ومن ذريتنا) يعني واجعل من ذريتنا (أمة مسلمة لك).

ولم يبين هنا تبارك وتعالى من هي هذه الأمة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقولهما: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، لكن الله سبحانه وتعالى بين في سورة الجمعة أن تلك الأمة هي أمة العرب، وأن الرسول هو سيد الرسل عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:٢ - ٣]؛ لأن الأميين هم العرب بالإجماع، والرسول المذكور هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعاً، ولم يبعث رسول من ذرية إسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، فإن الدعاء هنا (ومن ذريتنا) من إسماعيل الذي هو ابن إبراهيم عليه السلام، وما خرج من ذرية إسماعيل إلا رسول واحد هو سيد المرسلين وأشرفهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيتحتم أن تكون الأمة هي أمة العرب، والرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث رسول من ذرية رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وثبت في الصحيح: أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم، ولا ينافي ذلك عموم رسالته إلى الأسود والأحمر؛ لأنه بعث لأمة العرب، ودعوته للعالمين كلهم في كل زمان ومكان.

و (من) في قوله: (ومن ذريتنا) للتبعيض أو للتبيين، كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:٥٥]، وإنما خص الذرية بالدعاء؛ لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.

(وأرنا مناسكنا) أي: عرفنا متعبداتنا، ومناسكنا جمع منسَك أو منسِك بفتح السين وكسرها، وهو المتعبد، وشرعة العبادة، يقع على المصدر والزمان والمكان، من النسك وهو العبادة والطاعة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، فلذلك يقال في الذبيحة التي يتقرب الإنسان بها إلى الله: النسيكة، ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج، لشيوعها في أعماله ومواضعه، فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع، يعني عرفنا أعمال الحج والبقاع والأماكن التي نمارس فيها شعائر الحج، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وأن الشيطان تعرض له فرماه عليه السلام، قالوا: وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج، حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة، لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد، والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولاً من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة، وهي: العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى: علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه.

(وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) هذا الدعاء للتفريط لأصحاب التقصير، فإن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما عليهما السلام لأجل ذلك.