والمسائل التي ذكرها الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في سورة (ص) في قوله حاكياً عنهم: {أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}[ص:٨]، وهذا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم؛ لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه؛ لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم، وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى:{أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ}[القمر:٢٥]، فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}[البقرة:١١٨] وقال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:٥٣] يعني: لشدة التشابه بين العبارات التي كانوا يقابلون بها أنبياءهم من التكذيب والاحتقار والازدراء صارت متشابهة حتى في الألفاظ؛ ولذلك قال تعالى:((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) يعني: كلما جاء قوماً رسول ردوا عليه نفس الرد، كأن كل أمة كافرة كانت توصي التي بعدها، ولا يؤخذ من السياق أن هذا حصل بالفعل، لكن لشدة التشابه صار كأنهم يتواصون به.
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}[الأنعام:١٢٤] يعني: مثل ما نزل عليهم الوحي ينزل علينا نحن أيضاً، ولذلك جاء
الجواب
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤]، وقال تعالى:{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}[المدثر:٥٢] أي: أن تنزل عليه صحف بالوحي من السماء.
أما إنكاره تعالى عليهم اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار تجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله:(أهم يقسمون رحمة ربك) فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام؛ لأنه تعالى لما قال:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}[الأنعام:١٢٤]، أتبع ذلك بقوله رداً عليهم وإنكاراً لمقالتهم:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤]، ثم أوعدهم على ذلك بقوله:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}[الأنعام:١٢٤].
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم فقد جاء في قوله تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}[النحل:٧١]، وقال تعالى:{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}[الإسراء:٢١]، وقال تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}[الرعد:٢٦]، وقال تعالى:{وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}[الشورى:٢٧]، وقال تعالى:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}[النساء:١٣٥].
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ والقوة والضعف فقال هنا:(ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)، وقال تعالى:(ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة والاهتداء بهدي الأنبياء وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها، قال تعالى في سورة يونس:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨]، فإذا تأملنا وجدنا أن هنا أمراً بالفرح، وفي الآية الأخرى في سورة القصص نهي عن الفرح في قول قوم قارون له:{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:٧٦]، والمقصود بالفرح المنهي عنه ما يكون عن البطر والطغيان والاستكبار في الأرض، أما الفرح هنا فهو الفرح بالإيمان وبالهدى وبالقرآن وبالإسلام، كما يدل عليه قوله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}[يونس:٥٨] أي: بالإيمان والقرآن والإسلام، ولذلك كان الإمام وكيع بن الجراح سميناً، وكان إذا أراد أن يبكت من يكلمه في هذا السمن أو يقول له: أراك سميناً؟! يقول له: هذا من فرحي بالإسلام.
فإذاً: قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) أي: نفرح بالقرآن، ونفرح بالإسلام وبالسنة؛ لأن هذا هو الذي ينبغي أن يفرح الإنسان به، ويأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نجتهد به؛ لأنه (خير مما يجمعون)، وقال تعالى في سورة آل عمران:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[آل عمران:١٥٧].