[تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة)]
ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:٥٤].
ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فلما أراد المشركون طردهم وإبعادهم قال الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، ثم أمر تبارك وتعالى أيضاً بأنه إذا جاءوك فرحب بهم وحيهم، فقال: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ))، أي: بشرهم بهذه البشريات.
فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام بأن أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الضعفاء وهؤلاء المساكين أن يقربهم، وأن يكرمهم بهذا الإكرام.
يقول البيضاوي: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج، بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة.
هذه هي الموازين عند الله سبحانه وتعالى، فإنه وصفهم بالمواظبة على العبادة، والإخلاص فيها، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وهذا فيه مواظبة واستمرار، وقال: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذا فيه إخلاص.
فمدحهم بالعبادة وبالاستقامة وبالاستمرار على تلك العبادة، ثم وصفهم هنا -أيضاً- بأنهم يؤمنون بآيات الله فقال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا)، فأي مدح أعظم من أن يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يؤمنون بآيات الله عز وجل، وأنهم يتبعون حجج الله عز وجل؟! ثم أمره أن يبدأهم بالتسليم فقال: (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبدؤهم ويبادر بالتسليم إكراماً لهم، والمعنى: فابدأهم أنت بالتسليم فقل: سلام عليكم، أو: أبلغهم السلام من ربهم عز وجل، أي: يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة.
وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً.
فما رد عليهم شيئاً، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولا يخفى أن الآية تشمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد فتنزل الآية بياناً للكل، وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير في بحث سبب النزول أن قول السلف: (نزلت في كذا)، قد لا يقصدون به المعنى الحرفي لسبب النزول، أي: أنه حصلت واقعة معينة في شخص معين، ثم نزلت الآية في هذا الشخص، فلا يشترط أن يكون الأمر كذلك، فهذا الاصطلاح الذي يستعمل عند السلف بقولهم: نزلت الآية في كذا يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية بنزولها إثرها، وهذا بحث مهم جداً.
فالسلف حينما يقولون: (نزلت الآية في كذا)، ولا يكون ذلك هو سبب النزول الذي نزلت فيه فإنهم، يقصدون بذلك أن هذه الواقعة مما يشملها حكم الآية.
فقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)، يعني: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوجب على نفسه، وليس لأحد عليه حق واجب.
وقوله تعالى: (أنه من عمل منكم) هذه الجملة بدل من الرحمة.
وقرئ بكسر الهمزة: (كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة) إلى آخر الآية الكريمة، فيكون أيضاً تفسيراً للرحمة، لكن بطريق استئناف جملة جديدة.
وقوله: (بجهالة)، الجار والمجرور في موضع الحال، يعني: عمله وهو جاهل.
وقوله تبارك وتعالى: (بجهالة)، فيه معنيان: أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر: على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا والمعنى الثاني للجهالة: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة.
والحكيم لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، فعلى الأول يكون الجهل بمعنى: السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، وهو الذي نستطيع أن نقول إنه جهل عملي، فهناك جهل من الناحية العلمية ومعناه: أن الجاهل لا يعرف الضرر، ولا يعرف العواقب بل يجهلها، وهناك جهل بمعنى أن يكون الإنسان يعلم أن هذا مضرة ثم يقدم عليه، فيصير بهذا مساوياً للجاهل؛ لأنه سلك سلوك الجاهل الذي لا ينظر ولا يتدبر في عواقب الأمور.
وشاهد هذا المعنى من اللغة أي: استعمال الجهل بهذا المعنى، قول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمقصود هنا بالجهل: الجهل السلوكي، وليس المقصود الجهل العلمي أي: من حيث المعلومات.
ونفس المعنى قد استعمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخروج من البيت: (اللهم! إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)، فهذا تعوذ من الجهالة السلوكية.
إذاً: الجهل بالمعنى الأول هو السفه والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب، كما في قول الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول.
وعلى المعنى الثاني: يكون المراد الجهالة بمضار ما يفعله، وهذه هي الجهالة الحقيقية، أن لا يعرف مضار ما يفعله، وعواقب ما يسلكه من المسالك.
وقوله تبارك وتعالى: ((أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ))، فيه أن كل عاصٍ لله فهو جاهل؛ لأن الإنسان لا يقدم على المعصية إلا بجهل، فهو إما أنه أقدم على المعصية وهو لا يعرف ضررها ولا الإثم الذي تستوجبه، ولا العقوبة التي تتبعها، وإما أنه يعلم لكنه أقدم عليها مع علمه بذلك، وهو أيضاً بذلك جاهل؛ لأنه سلك مسلك الجهال بأن اقتحم هذه المخاطر وهذه المهالك.
وقوله تعالى: ((ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) فعل (أصلح) متعد، والمفعول مقدر، أي: (أصلح عمله) وذلك كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٧٠].
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي).
وقد نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: (دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين)، فعلى الإنسان دائماً أن يعظم المؤمنين ولا يقدم عليهم الكافرين، وهذا عكس ما نحن عليه الآن في هذا الزمان، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، تجد الناس يلهجون بذكر الكفار ويمتدحون الكفار الذين هم جاهلون بالله سبحانه وتعالى وجاحدون به، وقد فتن البعض بهم فتنة شديدة، حتى نرى منهم من يعلق أعلام أمريكا وبريطانيا في السيارات وحول رقابهم! وهذه الأشياء التي نراها الآن هي فتنة وضلالة لهؤلاء الكفار، والآية تدلنا على أنه ينبغي لنا أن نعظم المؤمنين ولا نقول للذين كفروا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:٥١]، ولا نساويهم أيضاً بالمؤمنين.
ودلت الآية أيضاً على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن، فيجتهد المرء في أن يدخل السرور على أخيه المؤمن، وأن يبشره بما يصلحه؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ))، إلى آخر الآية.
وقد أمر الله أن يقول لهم ذلك لتطييب قلوبهم، فعلى الإنسان أن يطيب قلب أخيه، وأن يتجنب ما يسوؤه، فلا تنقل إلى أخيك كلاماً يؤذيه حتى لو كان صحيحاً، وإلا كنت نماماً حمالاً للحطب، ولا تنقل إليه ما يسوؤه وما يؤذيه من القيل والقال، بل ينبغي أن تنقل إليه ما يسره؛ ولهذا استحب بعض العلماء أن تنقل لأخيك ما مدحه به غيره من الناس؛ وذلك لإدخال السرور عليه وتطييب قلبه.