[تفسير قوله تعالى: (هذا نزلهم يوم الدين)]
قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:٥٦].
أي: هذا جزاؤهم في الآخرة، وفيه مبالغة بديعة؛ لأن أصل النزل ما يعد للضيف من الإكرام والطعام والشراب.
فهذا جزاؤهم في الآخرة، فالنزل ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، أو الضيف حين يصل، فأول شيء يقدم إليه ويعد له ويهيأ له هو النزل لتكريمه به.
فالنزل هو أول ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، كالذبيحة أو غيرها من الأمور التي تحتاج إلى وقت للإعداد.
فجعل الله تبارك وتعالى ما مر وصفه في قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:٥١ - ٥٥]؛ كل هذا جعله نزلاً.
فانظر إلى دقة التعبير في قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} فهذا هو الترحيب الأولي بهم.
فلما جعل هذا أمراً هيناً كالنزل دل على أن ما بعده لا يطيق البيان شرحه، ولا يمكن أن تتسع لغة لوصف ما يكون بعده من الأهوال، والعياذ بالله.
وجعله نزلاً مع أن النزل هو ما يكرم به النازل؛ تهكماً، كما في قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً يعني: حييناه بالسيوف وقاتلناه.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النزل -بضمتين- هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراماً له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:١٠٧] وربما استعملت العرب النزل في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار.
وجاء القرآن باستعماله فيما يقدم لأهل النار من العذاب، كقوله هنا في عذابهم المذكور في قوله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ} [الواقعة:٥٢ - ٥٦] أي: هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار.
يعني أن المقصود به التهكم، كما تقول: هذه تحيتهم.
فهذا تهكم؛ لأن التحية في الأصل إكرام، وهنا نزلهم فيه إهانة وعذاب أليم، كما قال تعالى في حق الكافر الحقير الذليل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:٤٩].
وقال تعالى في آخر سورة الكهف: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:١٠٢] ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعدي الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء.