((وَمَنْ يَأْتِهِ)) يوم القيامة في حال كونه مؤمناً ((قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ)) أي: في الدنيا حتى مات على ذلك ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ)) أي: عند الله ((الدَّرَجَاتُ الْعُلا)) والعلا: جمع عليا، وهي تأنيث الأعلى، وورد هذا المعنى في قوله عز وجل أيضاً:{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}[الإسراء:٢١]، وقال:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}[الأنعام:١٣٢]، ونحو ذلك من الآيات.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى:((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ)) أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع (على ما جاءنا) أي: من الله على يد موسى ((مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) أي: وهذا الذي خلقنا، واختيار هذا الوقف للإشعار بعلة الحكم، فلم يقولوا مثلاً:{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} وعلى ربنا، أو: وعلى الله، وإنما قالوا:((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: لن نؤثرك على الذي فطرك، فاختيار الوقف على أن الله الذي خلقهم وفطرهم للإشعار بعلة الحكم؛ فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب إيثارهم عليه سبحانه وتعالى، وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله:{آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}[الأعراف:١٢٣]، فأجابوا بقولهم:((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: هو الذي خلقنا، فهو أحق أن نؤمن به، أما أنت فلست سوى مخلوق مثلنا، فكيف نعبدك؟! وكيف نحتاج إلى إذنك قبل أن يدخل الإيمان قلوبنا؟! وقيل: إن قوله: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) قسم محذوف الجواب، ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) أي: اصنع ما أنت صانع، وهذا جواب عن قوله لهم:{لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ}[الأعراف:١٢٤].
((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) أي: تقضي في هذه الحياة الدنيا، وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها، وإنما نريد الآخرة:{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طه:٧٣] أي: خير وأبقى ثواباً، ((إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا)) يعني: فينقضي عذابه (ولا يحيا) أي: حياة طيبة.