للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)]

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:٥٥].

((إِذْ قَالَ اللَّهُ)) أي: اذكر إذ قال الله: ((يا عيسى إني متوفيك)).

نلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ينادي عامة الأنبياء بأسمائهم: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:٤٦] وقوله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:٣٥] و ((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) و {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤]، وهكذا.

أما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يناده الله تبارك وتعالى باسمه قط في القرآن الكريم، إنما ناداه بصفاته الشريفة كـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:١] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:١] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:٦٤]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:٤١]، وهذا من كرامته على الله سبحانه وتعالى وبلوغه في الشرف مقاماً لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) أي: قابضك.

((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)) أي: من الدنيا من غير موت.

((وَمُطَهِّرُكَ)) أي: مبعدك.

((مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: صدقوا بنبوتك من المسلمين.

وهذه تشمل طائفتين: تشمل الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام ممن أدركوا بعثته، ووافقوه على دين الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الطائفة الثانية التي شملتهم هذه الآية: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم الذين اتبعوا رسول الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فنحن المسلمين أيضاً ندخل في قوله تعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: الذين صدقوا نبوتك من المسلمين؛ لأننا اتبعنا المسيح عليه السلام على الحقيقة، وأما النصارى فهم أعداء المسيح عليه السلام يعاديهم ويبغضهم ويبرأ إلى الله منهم تماماً، كما أن اليهود يدعون كذباً مع اعتزازهم بموسى عليه السلام وأنهم على دينه وملته، كذلك نقول: نحن أتباع موسى على الحقيقة ونحن أولى به منهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فسألهم عن ذلك، فقالوا: (إنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وقومه قال: نحن أولى بموسى منهم) وقال: (أنا أولى الأنبياء بالمسيح عليه السلام، ما بيني وبينه نبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فإذاً: نحن أتباع المسيح، وأتباع موسى عليهما السلام؛ لأننا على نفس الدين الذي دعوا إليه، ولأننا نؤمن بالأنبياء كلهم، فالذي يكفر برسالة نبي واحد فإنه قد كفر بجميع الأنبياء، ويحبط كل إيمانه ويصير مرتداً، ومن كذب بنبوة المسيح فقد كفر، ومن كفر بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى فقد كفر ولا ينفع إيمانه بالقرآن ولا بالتوراة، بل الإيمان حقيقة متركبة من أجزاء مرتبطة ببعضها، لا ينفك ولا ينفصل بعض منها عن البعض الآخر.

((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: فوق الذين كفروا بك وهم اليهود، وكذالك ومن حرف دين المسيح من النصارى، فالذين اتبعوك يعلونهم بالحجة وكذلك بالتمكين لهم في الأرض.

الذين كفروا بالمسيح قسمان: الأول: اليهود لعنهم الله فهم الذين كفروا بالمسيح وسبوه وسبوا أمه ورموها بالبهتان وبالإفك المبين.

الثاني: الذين حرفوا دين المسيح من النصارى وعبدوه وألهوه.

((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)) هذا وعد لا يتخلف، وما نحن عليه من الضعف والوضع الذي يعيشه المسلمون الآن، فهذا ليس هو الأصل بل هذا من الاستثناءات؛ لأن الغالب والأصل أن المؤمنين دائماً فوق الذين كفروا، ولا يجوز أن يظن بالله سبحانه وتعالى أنه يدع المسلمين مقهورين إلى الأبد، بل لابد أن تعود الكرة كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨].

فمن سوء الظن بالله أن يظن أنه يمكن للكفار أن يستأصلوا المسلمين ويبيدوهم وترتفع كلمتهم عليهم، هذا خلاف الأصل.

خاصة إذا قلنا: إن أحد ركني هذه الفوقية المقصود به العلو في الحجة والبيان، فهذا بلا شك قائم في كون المؤمنين والموحدين يعلون الكفار دائماً بالحجة والبرهان، كما بيناه وكما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

وأحياناً يعلونهم بالسيف، أما ما نحن فيه من أوضاع آخر الزمان فهي تخالف في القاعدة الأصلية.

((فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) أي: من أمر الدين.