[تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)]
قال عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:٣١].
قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، يعني: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها.
وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون)، روي أن علياً رضي الله تعالى عنه نظم أبياتاً على منوال هذه الآية، وقيل: إنها لـ أبي العلاء المعري، ولعل هذا أقرب، يقول فيها: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما و (إليكما) هنا معناها: كُفَّا عما تقولان؛ فإنه ليس بصحيح.
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا فأيهما أبر لديكما؟ طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خلدي بذاك فأوحشا خلديكما وبكرت في البردين أبغي رحمةً منه ولا ترعان في برديكما إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي فهل من عائد بيديكما برد التقي وإن تهلهل نسجه خير بعلم الله من برديكما يناظر هذين الملحدين اللذين ينكران البعث والنشور.
فقوله: (إن صح قولكما فلست بخاسر) يعني: لو كنت أؤمن بالبعث والنشور وأنتما لا تؤمنان به، وظهر بعد ذلك أن مذهبكما كان الصحيح، فمذهبكما في عدم وجود بعث ونشور لا يضرني، لكن افترضا أن مذهبي صحيح وأنه يوجد بعث ونشور فإن هذا يضركما، وهذا نوع من التنزل أو ما يسمى باستدراج الخصم في المناظرة، حتى يقر بالحق، وهذا له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:٢٨]، وكذلك -أيضاً- قوله تعالى في سورة سبأ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤] والألصق بالموضع الذي نذكره هو هذه الآية: (وإن يك كاذباً)، وبدأ بكلمة (كاذباً)؛ لأنها أقرب لهواه، وهذا نوع من التنزل في الخصومة وفي المناقشات، فإذا كان كاذباً (فعليه كذبه)، لكن إذا كان صادقاً (يصبكم بعض الذي يعدكم) فكذلك هنا يقول لهما: إن كان مذهبكما صحيحاً فأنا ما خسرت شيئاً، لكن إن كان مذهبي صحيحاً فقد خسرتما كل الخسران.
فكأنه يقول: إذا كان الأمر كما تقولان من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقولان فقد تخلصت وهلكتما، فهذا الكلام وإن خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وبيان قلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه، مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهذا نوع من أنواع الجدل، فالاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، فيستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة وليس منها، كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٨] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: (إن يك كاذباً) فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، وهذا يذكرنا -أيضاً- بقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:٢٦ - ٢٧].
فكأن مؤمن آل فرعون يقول: إن يكن نبياً صادقاً فلابد من أن يعطي كل ما وعد به لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشدد، فأراهم أنه لم يعطيه حقه، ولم يتعصب له ويحام عنه حتى لا ينفروا عنه، ولذا قدَّم قوله: (وإن يك كاذباً) ثم ختم بقوله: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدارجه ما لا يخفى.
وقوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) أي: جاءتهم القيامة فجأة، وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتةً في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والمعنى: جاءتهم منيتهم.
والساعة هنا ليس المقصود بها يوم القيامة، بل المقصود بها القيامة الخاصة بكل إنسان، حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة بالموت، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) المراد الساعة الصغرى التي هي الوفاة.
قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، كما يقال: إذا مات ابن آدم قامت قيامته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة)، ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته.
وقوله: (قالوا يا حسرتنا) أي: يا ندامتنا.
والحسرة هي التلهف على الشيء الفائت.
وقوله: (على ما فرطنا فيها) أي: قصرنا في الحياة الدنيا.
وقوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) يعني: بئسما يحملونه.