[علاقة حديث النزول بالعقيدة والرد على منكر نزول الرب سبحانه]
ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه، عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟).
وفي رواية لـ مسلم: (ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)؟ وفي رواية: (حتى ينفجر الفجر)، يعني: أن ذلك الفضل يظل إلى أن ينفجر الفجر.
سبق أن تكلمنا أن المبدأ الذي أرساه السلف في عقيدة الأسماء والصفات مقتبس من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فهو سبحانه يثبت السمع والبصر، لكن ليس كمثله شيء كما بينا ذلك مراراً، فالمشكلة أن بعض الناس لم يلتزم بهذه القواعد الذهبية في فهم العقيدة السلفية في الأسماء والصفات فيقعون حتماً في إحدى الضلالتين أو كليهما معاً، فهو ينفر طبعاً من التشبيه إلى التعطيل، فينفي الصفة.
أحياناً تصدر أسئلة غريبة عن مثل هذا الحديث، فإذا قلت: ينزل ربنا لا كنزول المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، تجد البعض يتصور نزولاً كنزول المخلوقين والعياذ بالله، فلذلك تجد الأسئلة الشيطانية الغريبة كقولهم مثلاً: الكرة الأرضية مستديرة، ومعروف أن الليل يكون في مكان والنهار في مكان آخر ومعنى ذلك: أن الليل يكون موجوداً مدة أربعة وعشرين ساعة، فمعنى ذلك: أن هذا النزول سيستمر طول الليل؟ وهذا السؤال صادر عن اعتقاد تشبيه الخالق بالمخلوق، أما إذا قلت: (ليس كمثله شيء) فلن تحتاج أبداً لذكر هذه الأسئلة.
وبعضهم يسأل: هل هذا النزول يستلزم أن يخلو منه العرش أم لا؟ لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ إن نزول الله عز وجل لا كنزول المخلوقين، أما أنت فنزولك يستلزم أن تنزل عن شيء، ويستلزم خلو هذا المكان منك، لكن الله سبحانه وتعالى في استوائه على عرشه ليس كمثله شيء، ونزوله في الثلث الأخير ليس كنزول المخلوقين، فلا نحتاج إذا طبقنا فهم السلف الصالح لمثل هذه الإيرادات.
لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لما تكلم عن تفسير هذا الحديث في هذه الآية قال: وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه: ما جاء في كتاب النسائي مفسراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً فيقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟)، والفرق في الرواية واضح! فالحديث المشهور الذي ذكرناه: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟) والمتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
فهنا الإمام القرطبي قال: إننا نحمل هذا الحديث على ذاك الحديث ونفسره به، يقول: لو صححه أبو محمد عبد الحق فإنه يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وتكون الرواية الأولى: (ينزل ربنا) من باب حذف المضاف، وقد روي: (ينزل ملك ربنا).
وهو الشاهد من هذا الكلام الذي استروح له الإمام القرطبي رحمه الله تعالى والإمام ابن عطية.
واسم الإمام ابن عطية الأندلسي هو أبو محمد عبد الحق بن غالب كان من أعيان أئمة المالكية المضربين في العلم.
وللإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب يسمى (شرح حديث النزول)، ناقش فيه هذه النقطة فقال رحمه الله تعالى رداً على هؤلاء الذين قالوا في تأويل الحديث: (ينزل ربنا) أنه بمعنى: أنه ينزل ملك من عند ربنا: فإن قلت: الذي ينزل ملك، قيل: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:٢]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:٦٤]، وفي الصحيحين أيضاً في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، إلى آخر الحديث، كذلك حديث (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر)، إلى آخر الحديث.
فإذاً نزول الملائكة أمر مستمر فما وجه تخصيص ثلث الليل الآخر؟ الوجه الثاني: أنه قال فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها الملك! بل الذي يقول الملك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وذكر في البغض مثل ذلك، فهذا فعلاً ينادي به ملك من عند الله، فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطبة كما قال جبريل في الحديث هنا: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه).
يقول شيخ الإسلام معلقاً على تأويل حديث نزول الله: هذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى عليه السلام، وقالوا: إنه أمر ملكاً فكلمه، فقالوا في قوله: (وكلمه ربه) أي: كلمه ملك ربه.
يقول شيخ الإسلام: هذا من تأويلات الجهمية، وهو باطل إذا لو كلمه ملك لما قال الملك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤]، لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٢٩]، فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء، تقول كما كان جبريل عليه السلام يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:٦٤]، ويقول: إن الله يأمرك بكذا، ويقول كذا، ولا يمكن أن يقول ملك من الملائكة ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي))، ولا أن يقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ولا يقول: (لا يسأل عن عبادي غيري) كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما وسندهما صحيح.
وهذا أيضاً مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر منادياً ينادي، إشارة إلى الحديث الذي احتج به القرطبي تبعاً للإمام ابن عطية رحمه الله، فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرب يقول ذلك، ويأمر منادياً بذلك، جمعاً بين الحديثين، لا أن المنادي هو الذي يقول: (من يدعوني فأستجيب له)، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه خلاف للفظ المتواتر، الذي نقلته الأمة خلفاً عن سلف.