[تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط فهل من مدكر)]
قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:٣٣ - ٤٠]، ((حَاصِبَاً)) بمعنى: ملَكاً يرميهم بالحصباء والحجارة، أو ريحاً تحصبهم بالحجارة، يعني: ترميهم.
{إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي: نجيناهم من ذلك العذاب في سحر، و (الباء) للملابسة أو المصاحبة، وذلك أنه تبارك وتعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل؛ فنجوا مما أصاب قومهم.
ولم يؤمن بلوط من قومه أحد حتى امرأته، وقد أصابها ما أصابهم، وخرج نبي الله لوط عليه السلام وبنات له من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء.
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: إنعاماً منا، إذاً: هذه علة لـ (نجينا).
{كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي: فأطاع ربه وانتهى إلى أمره ونهيه.
والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم عليه إلى ما خلق لأجله، أي أن يستعمل نعم الله سبحانه وتعالى فيما أعطاه هذه النعم لأجله.
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوط عليه السلام ((بَطْشَتَنَا))، أي: أخذتنا بالعذاب، {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي: بإنذاراته تكذيباً له.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي: طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته عجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، وهذه هي خيانتها له المذكورة في قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:١٠] وإلا فزوجات الأنبياء لا يمكن أن يقعن في الفاحشة.
فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله ألا يخزوه في ضيفه، فأتوا عليه وجاءوا ليدخلوا عليهم، فأعمى الله أبصارهم فلم يروهم، كما قال تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}، وقيل: طمس أعينهم فلم يبق حتى الشق الذي تخرج منه العين في وجوههم.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}، أي: أتاهم صباحاً عذابٌ مستقر نازل يدوم بهم إلى النار، أي: فهو عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ بدايته لحظة نزول هذا العذاب في الصباح، ولا نهاية له والعياذ بالله، ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)).
((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، قال الزمخشري: (فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ وقبل أن نبين هذا: معلومٌ أننا تكلمنا من قبل على سبب التكرار، فهو إما للتأكيد وإما للتأسيس، فمتى احتمل الكلام التأسيس والتوكيد فإنه يترجح القول بالتأسيس؛ لأن فيه معنى جديداً، كذلك هنا، ولها نظائر في عدة مواضع من القرآن كقوله في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣]، وقوله تعالى في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:١٥]، وغير ذلك.
فيقول الزمخشري: فائدة هذا التكرار أن يجددوا عند استماع كل نبإٍ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير كقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣]، عند كل نعمة أعدها في سورة الرحمن، وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:١٥]، عند كل آية أوردها في سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في نفسها لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.