[تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)]
قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:٣٠].
قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ))، أي: ولو نشاء يا محمد! لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين؛ ستراً منه على خلقه، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، وهو رأي ابن كثير فلو نشاء لأريناكهم جميعاً، فالتعامل في الدنيا بين الناس إنما يكون على ما يظهرون، ولا سبيل إلى الوصول إلى ما يبطنونه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس، ولا أن أشق صدورهم)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فأحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعاملهم على بواطنهم، فينبغي الاكتفاء بستر الله سبحانه وتعالى على خلقه، وعدم التنقيب والتفتيش خاصة فيما يتعلق بالكفر والإيمان، فهؤلاء المنافقون حالهم ما ذكر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك عوملوا في دولة الإسلام بما يظهرون، بمعنى: أنه لو أظهر الزندقة حكم عليه بالزندقة، ولو أظهر الردة حكم عليه بالردة، ولو أظهر الإسلام حكم عليه بما يظهر من الإسلام، وهذا بغض النظر عما يبطنه، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن ترك الأمور في الدنيا تسير بهذه الطريقة.
وكذلك في التعامل بين الناس ينبغي أن يؤخذ على يد النمام؛ لأن النمام -كما وصفه الله تعالى- يحمل الحطب ليحرق الناس، ويثير الفتن، وقد جرى في أمور الدنيا على أن الناس يأخذون من بعض، ويقبلون بعض الظاهر، وأما النمام فإنه يحاول أن ينقل الكلام من طرف إلى طرف؛ ليفسد بين الناس، فيكشف ما خفي من أمرهم وما ستُر.
وهذا الكلام الذي نقله النمام يترتب عليه فتن وأحقاد وضغائن، فالنمام يحوِّل ما يبطنه الشخص إلى شيء مشاهد، فهو يكشف ويهتك هذا الستر فيصيره مكشوفاً معايناً، فتشتغل القلوب، وتشتعل الأحقاد في الصدور، فالناس لم يتعايشوا في الدنيا إلا بالستر، وأما لو ظهرت مواقفهم وأمورهم لكانت الحياة عذاباً وجحيماً.
فينبغي أن يكتفي الإنسان بما أمره الله به؛ وهو الظاهر، وألا يحرص على التنقيب عما في بواطن الناس، فلو تعامل الناس بما في البواطن لصارت الحياة هماً دائماً وكرباًَ، ولما سعد الناس، ولا أطاق بعضهم بعضاً.
فالله سبحانه وتعالى -رحمة منه بنا في هذه الدنيا- أمرنا بالاكتفاء بالظاهر، فالإنسان لا يولع ولا يغرم بالتفتيش عما في قلوب الناس، ولا أن يصغي إذنه للنمام الفاسق الذي يسعى للإفساد بين الناس عن طريق نقل الكلام، ويظن أنه يخبر بالذي وقع، لكن الشرع -حتى لو كان قد حصل بالفعل- سماه نماماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام، ولا يدخل الجنة قتات).
قال القرطبي: (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) أي: لعرفناكهم.
وقال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي: سأعلمك؛ لأن الرؤية: رؤية علمية، ورؤية بصرية، فهذه رؤية علمية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١]، أي: ألم تعلم؟ بدليل أنه ولد في عام الفيل، فحصل حادث الفيل قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) أي: بما أعلمك الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:١٠٥]، وقوله: ((وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) نهي عن مساعدة أهل التهم، ونهي عن الدفاع عن الإنسان المريب الظالم بما يقوله خصمهم من الحجة.
وفي هذا -كما يقول القرطبي - دليل على أن النيابة عن المبطل والمستحق للخصومة لا تجوز، فمثلاً يأتي المحامي ليدافع عن قاتل، أو تاجر مخدرات أو نحو هؤلاء، وهو ظالم ومجرم وفاسق ومخرب، ومع ذلك تجد المحامي مستعداً ليدافع عنه، فمثل هذا -شرعاً- لا يجوز أبداً الدفاع عنه وأنت تعرف أنه ظالم ومعتدٍ؛ لتخلصه من هذا، وأظن أن هذا من أقبح ما يتدنس به بعض المحامين الذين لا يبالون بضياع حقوق الناس، فالمهم أن يحظى هو بحظه من الدنيا في النهاية.
فالنيابة عن المخطئ والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عما قريب.
قول ابن عباس رضي الله عنهما: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، فسورة براءة تسمى: سورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في سورة التوبة: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً.
وتسمى: سورة البحوث؛ لأنها تبحث عن أفراد المنافقين، وتسمى: المبعثرة، قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:٦٤]، أي: إن الله مظهر ما تحذرون ظهوراً.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعيِّر بعضهم بعضاً، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك، إذ قال: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ))، فكشف أسمائهم، ثم ستر ذلك مراعاة لأبنائهم المسلمين كي لا يعيَّروا بهم.
وقيل: إن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)) أنه عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوالهم وأسماءهم، لا أنها نزلت أسماؤهم في القرآن، ولقد قال الله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)).
قال شيخ المفسرين ابن جرير: عن ابن عباس في هذه الآية: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ))، قال: هم أهل النفاق، وقد عرفه إياهم في براءة، فشيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى يرى أن الله عرفه بالفعل هؤلاء المنافقين في سورة براءة، فقال عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤]، وقال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:٨٣].
قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ))، أي: بعلامتهم الخاصة التي يتميزون بها.
قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما، فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ)) أي: ولو أريناكهم لعرفتهم بسيماهم.
وقال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد.
ثم قال تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)) أي: في فحواه ومعناه، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي: أحسنه ما كان تعريضاً يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره؛ لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض، وهو مأخوذ من اللحن في الإعراض، وهو الذهاب عن الصواب.
وعن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله.
وعن بعض الزهاد قال: لم نؤت من جهل ولكننا نستر وجه العلم بالجهلِ نكره أن نلحن في قولنا ولا نبالي اللحن في الفعلِ وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، قال هذا لرجلين أتيا يختصمان في شيء معين، فقال النبي عليه السلام: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر) يعني: لا أعلم الغيب ولا أعلم ما في قلوبكم، ولكوني بشراً لن أحكم إلا بما يظهر لي، (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي: أنه يستطيع أن يحور الكلام بالفصاحة وغير ذلك، فيظهر حجته أقوى من حجة الآخر، في حين أنه ظالم والآخر هو المظلوم والحق له، لكن من علم صناعة الكلام وقدرته على اللحن في الكلام فإنه يستطيع أن يدلي بحجة، والآخر لأنه عيي لا يفصح ولا يستطيع أن يعبر، فيضيع حقه بسبب ذلك، فيحذِّر النبي عليه الصلاة والسلام من مثل هذا فيقول: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم) أي: أني أنا آخذ بالظاهر، وهي الحجة التي يدلي بها هذا الشخص، ومع ذلك وإن كان الذي حكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحكم في الحقيقة باطلاً، أي: أنه حكم للظالم على المظلوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن ذلك؛ لأنه يحكم بالظاهر الذي ظهر له، فهذا تحذير للشخص الظالم، وإذا كان هذا في حكم الرسول الله عليه الصلاة والسلام فما بالك بشخص ينال شيئاً ليس من حقه بحكم قانون وضعي! إذا كان حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغير الواقع في نفس الأمر شيئاً مع أنه حكم وهو يحكم بما يظهر له، فكيف بحال هؤلاء!! فإذا كنت تعرف أنك ظالم، وأنه ليس من حقك فلا يصح أن تقول: قد حكم لي؛ لأن هذا ليس من حقك، وهذا ليس من شرعنا ولا موافقاً له، قال صلى الله عليه وسلم: (من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فيرد هذا الحكم.
فحكم الحاكم أو القاضي لا يغير من الحقيقة شيئاً، وستصبح مسئولاً أمام الله عن أن تؤدي الحق إلى صاحبه: (فمن قضيت له من حق أخيه