تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله)
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:٨].
قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) التبشير: هو الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، والبشرة هي ظاهر الجلد؛ لأنها تتغير بأول خبر يرد عليها، والغالب أنه يستعمل في السرور مقيداً للخير المبشر به، وغير مقيد أيضاً، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيداً منصوصاً على الشر المبشر به، ففي الخير إما أن يأتي مقيداً وإما أن يأتي بدون قيد، لكن التبشير بالغم والشر لا يأتي إلا مقيداً بالشر المنصوص عليه، كما قال سبحانه وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:٢١] َ.
يقال: بشرته، وبشرته بشارة، وبشر يبشر إذا فرح.
والبَشارة بفتح الباء، والبُشرى: ما يعطاه المبشر، وتباشير الشيء أوله، قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:٩٧]، والبشارة هي: الخبر بما يسر، وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء كما ذكرنا قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:٧]، ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر وقال الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: البِشارة، أو البَشارة قد تطلق على الإخبار بما يسوء، وهذا الأسلوب من أساليب اللغة العربية.
قوله: ((وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) الإنذار: هو الإبلاغ والإعلان، ولا يكاد يستعمل إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز والاحتياط عن هذا الشيء الذي يأتيك الإنذار به، فإن لم يتسع زمنه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً، قال الشاعر: أنذرت عمراً وهو في مهل قبل الصباح فقد عصى أمر ويقال: تناذر بنو فلان هذا الأمر، إذا خوف بعضهم بعضاً.
قال الله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، يعني: بعد هذا الإنذار، ولم يبين هنا هذه الحجة التي كادت تكون للناس عليه، وبين هذه الحجة في قوله سبحانه وتعالى في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:١٣٤]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:٤٧]، وقال عز وجل: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٢].
فالمقصود: أن من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار، وقوله في هذه الآية: ((لِتُنذِرَ بِهِ))، هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين اثنين، وإن كان المفعولان لم يذكرا، والتقدير: لتنذر به الكافرين عذاباً أليماً.
وهذا الإنذار بينه الله في قوله عز وجل: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:٩٧]، وقال أيضاً: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:٦]، وهذا بيان للمفعول الأول المحذوف.
أما المفعول الثاني فبينه قوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:٢] وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:١٤] وقوله: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ:٤٠]، ونحوها من الآيات.
وقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى فقال: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٢] فيفهم من هذا أن الإنذار هنا للكفار: ((لِتُنذِرَ بِهِ)) يعني: الكفار، فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:٩٧]، وهنا في آية الفتح قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:٨]، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:٩٧]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥]، فهذا أيضاً يشير إلى قوله: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٢].
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:٤٥]؛ لكن جاءت آيات فيها قصر الإنذار على المؤمنين والكافرين، وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه، يعني: إن كانت الآيات السابقة استعملت لفظ الذكرى أو التذكير في حق المؤمنين والإنذار للكافرين؛ لكن لا ينافي أن يكون الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في آيات أخرى كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:١١]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه كالعدم، يعني: الكافر إذا أنذر ولم ينتفع بالإنذار فكأنه لم ينذر.
إذاً: خلاصة الكلام أن الإنذار يطلق في القرآن على إطلاقين: الأول: إنذار عام لجميع الناس، كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢]، وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:١]، للعالمين مؤمنين وكافرين، فهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: ((إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ))؛ لأن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الإنذار دون غيرهم.
الثاني: إنذار خاص بالكافرين؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله تعالى: ((لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا))، وقال في آية الأعراف: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٢]، والإنذار في لغة العرب: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.