[تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)]
قال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٢].
((المص)) تقدم الكلام عليه.
((كتاب)) أي: هذا الكتاب، ((أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه)) أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، لأن في الحديث: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً قلت: يا رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة).
فهذا يدل على أنه عليه السلام كان يشفق من أذى قومه ويضيق صدره لذلك، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود:١٢].
والشنقيطي رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله: ((فلا يكن في صدرك حرج منه)): قال مجاهد وقتادة والسدي: حرج أي: شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً.
وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:٩٤] وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:٩٤]، يقرن إثبات أحقية القرآن وأنه من عند الله بالنهي عن المراء.
وعلى هذا التفسير لا يكون الخطاب حقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الشاعر: إياك أعني واسمعي يا جاره وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:٢٤]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً، لكن المقصود غيره، وقد يصرح به أحياناً في القرآن والمراد غيره مثل: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:١].
وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥]، فالرسول عليه السلام معصوم من الذنوب ومن الآثام، فكيف لا يعصم من الشرك عليه الصلاة والسلام؟! فهو لا يمكن أبداً أن يصدر منه شرك، وكذا قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة:١٢٠]، وهو معصوم من ذلك أيضاً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله يخاطبه؛ ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الاحتمالالذي ذكره الشنقيطي في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) أي: مرية أو شك.
أما جمهور العلماء فمذهبهم أن المراد بالحرج في الآية هو: الضيق، كما بينه القاسمي رحمه الله؛ لأن تحمل عداوة الكفار والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات، مما يضيق به الصدر، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود:١٢]، وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:٩٧]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٣]، ويؤيده أيضاً: أن الحرج في لغة العرب: الضيق، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:٦١] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] أي: ضيق، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] حرجاً أي: شديد الضيق.
إلى غير ذلك من الآيات.
قال تعالى: ((لِتُنذِرَ)) أي تنذر المشركين، ((به)) يعني: بهذا الكتاب المنزل، ((وذكرى للمؤمنين)) أي: عظة لهم.
ولا ينافي ما ذكرناه من أن الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:١١] لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً على المؤمنين صار خصهم بالذكر؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم، ومن أساليب العرب أنهم يعبرون عن قليل النفع بأنه لا شيء، فالذي لا ينتفع بالسمع يعتبره العرب أصم، والذي لا ينتفع بالنظر يعتبره العرب كالأعمى، وهذا سر نفي هذه الحواس عن هؤلاء الكفار.
والإنذار يطلق في القرآن إطلاقين: أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١ - ٢] أي: كل الناس.
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:١]، وهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:١١]، وإنما قصر على المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالذكر دون غيرهم.
النوع الثاني من الإنذار: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، فهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:٩٧]، وقوله هنا: ((لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)).
والإنذار في اللغة العربية هو: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً.