[تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)]
قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:٤].
قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) المقصود بذلك هنا من لم يؤمن من أهل الكتاب، المقصود ((إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ))، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا} [الشورى:١٤].
والبينة هنا قيل: هي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: القرآن الكريم، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: ما في كتبهم من بيان نبوته صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما تفرقوا في كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن تبينوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم.
يقول القاسمي في تفسير قوله: (إلا من بعد ما جاءتهم البينة): أي: على ألسنة أنبيائهم، فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم في كتبهم، كذلك أيضاً جحدوا بينته في القرآن الكريم لما بعث عليه الصلاة والسلام، فتفرقوا فيها، وابتعدوا عن حقيقتها بسبب هذا التفرق، فإن هذا كان شأن أهل الكتاب في بينته وبينتهم، أي: إذا كان أهل الكتاب وهم الذين أنزل إليهم الكتابان من قبل: الإنجيل والتوراة، وهذان الكتابان مملوءان بالبشارات ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن كلمة الإنجيل نفسها تعني البشارة، والبشارة هي أساس البيان لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى إن معنى اسمه في الإنجيل: البشارة، والمقصد من دعوة المسيح هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله سلم، فإذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، وكانوا على علم بوصف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصف أصحابه، فإن ذلك كان موجوداً في كتبهم، ومع ذلك اختلفوا فيه، وجحدوا بعدما بعث، فما ظنك بالمشركين الذين هم أميون لا كتاب لهم، وهم أبعد عن العلم!! فلا شك أنهم سيكونون أولى بالانقياد للهوى، والغرق في الجهالة.
وقال بعض العلماء: خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم العلم، فالمفترض أن يكونوا على علم، فإن تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، وأولى بوصف الكفر، والإعراض عن دين الله تبارك وتعالى.
وقد فاتنا تنبيه مهم يتعلق بقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:٣].
يقول الشيخ عطية سالم: مدلول الكتب على ظاهرها، أي: أن بعض العلماء -كما قلنا- قالوا: الكتب هنا هي الآيات وسور القرآن الكريم، أو هي الأحكام.
وقول آخر: أن الكتب على ظاهرها جمْع كتاب، والمراد الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كما في قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧]، ثم قال بعدها: ((إِنَّ هَذَا)) يعني: هذا الكلام نفسه {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:١٨ - ١٩].
وكقوله أيضاً في عموم الكتب الأولى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف:٣٠]، وقال أيضاً: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ} [آل عمران:٣ - ٤].
وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:١١٤]؛ لأن ما فيه يصدّق ما في كتبهم التي سبق إنزالها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:٣٤].
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:٧٦]، فهو مهيمن على ما عندهم، ومحاسب ومرسخ للحق، ومبين للباطل، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:٩٢]، فهذا كله يدل على أن آيات القرآن متضمنة كتباً قيمة مما أنزلت من قبل.
وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥]، فهذا الكلام موجود في التوراة، وهذا هو معنى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:٣] يعني: أنّ القرآن فيه أشياء من الكتب القيمة التي سبقت.
وقال أيضاً: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموماً من أهل الكتاب والمشركين، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ))؛ وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم وبما سيأتي به، فكانوا {مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:٨٩]، وكقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:١٤] فاختصوا بالذكر هنا لمعرفتهم بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه.
ثم يقول الشيخ عطية سالم: ومما يدل على ما ذكرنا من معنى (كتب قيمة) أمران من كتاب الله: الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث عن الذين كفروا، مما يؤكد أنّ تفسير (كتب قيمة) يكون بهذا المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً.
والثاني منهما: أن القرآن لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يتلو على المشركين قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:٢] فجاء نفس الأسلوب الذي استعمل مع المشركين فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)؛ لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، ولذا قال: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) فاقتصر على الآيات، وأما أهل الكتاب فذكر أن فيها كتباً قيمة؛ لأنهم على علم بالكتب -يعني- السابقة.