[تفسير قول الله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)]
قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:٦٧].
قوله: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) أي: متشابهون في النفاق، والبعد عن الإيمان كتشابه أبعاض الشيء الواحد، والمراد: الاتحاد في الحقيقة والصفة، (فمن): اتصالية بعضهم من بعض.
قال الزمخشري: أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، (بعضهم من بعض)، يعني: ليسوا من الإيمان ولا من المؤمنين في شيء، والمراد أيضاً تكذيبهم في قولهم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة:٥٦]، فالله يقول هنا: ليسوا منكم، إنما (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)، وهذا تقرير أيضاً لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:٥٦]، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: (يأمرون بالمنكر) والمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنكر: كالكفر والمعاصي، وينهون عن المعروف: كالإيمان والطاعات (ويقبضون أيديهم) بخلاً بالمال والصدقات والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود؛ لأن من يعطي ويمد يده بخلاف من يمنع.
(نسوا الله فنسيهم) أي: أغفلوا ذكره وطاعته فتركهم من رحمته وفضله، ولم يوفقهم إلى التوبة، لأن النسيان بمعنى الترك، ومعاذ الله أن يظن النسيان في حق الله سبحانه وتعالى، لكن نسيهم يعني: تركهم، فمعنى: (نسوا الله) يعني: فهم لا يذكرونه عز وجل ولا يطيعونه؛ لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازاً عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم.
(إن المنافقين هم الفاسقون).
والنسيان هنا لا يفسر بعدم الذكر، (نسوا الله) بمعنى: لم يذكروا الله سبحانه وتعالى ولم يطيعوه؛ لأن النسيان البشري لا يؤاخذ عليه، كما قال الله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦]، لكن هنا يؤاخذ عليه؛ لأنه ورد في سياق ذمهم، وذكر أسباب هذا الذم، كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩] يعني: غفلوا عن ذكره وأعرضوا عن طاعته سبحانه وتعالى.
كما أن من أشد العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده: أن ينسيه نفسه، أو أن ينساه الله، بمعنى: أنه يخذله ولا يوفقه إلى التوبة، فيتمادى في المعاصي، والكفر، ومحاربة الإسلام وهو في غاية السعادة، وهو فرح فخور بهذا! فهذه من أكبر العقوبات؛ لأن خطورتها تكمن في أنها عقوبة خفية؛ لأن العقوبات تتنوع، فمن العقوبات ما يكون ظاهراً، فالإنسان بعد أن يرتكب ذنباً معيناً يعاقب عليه فوراً، فمن رحمة الله به أنه يفيق ويعود إلى إصلاح حاله مع الله سبحانه وتعالى، لكن أقبح العقوبات ما خفي ودق بحيث لا يحس صاحب الذنب أنه يعاقب، ويكون في غاية السعادة والفرح، ويقول: أنا أعيش حياتي بالطول وبالعرض، وهذه في حد ذاتها عقوبة من الله، حيث إن الله خذله، كان الرسول يقول في الدعاء: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا وكل الإنسان إلى نفسه طرفة عين فسدت عليه كل حياته، وإذا رفع الله عنه عنايته يخذله ويضيع، فهذا يكله الله سبحانه وتعالى لنفسه ولا يتولاه ولا يرعاه ولا يوفقه، بل يخذله ويثبطه ويلقي الغفلة على قلبه، وبالتالي إذا كان سعيداً وفرحاً ومشغولاً عن التوبة، فكيف سيتوب؟! {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:٨]، وهذا حال الكفار ومن نهج منهجهم وسار على طريقتهم.
((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ))، فهو يظن أنه ملك الأرض ومن عليها، ويغتر {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤]، وسعيد جداً بأنه متسلط على رقاب الناس؛ وأنه مجتهد في محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فهذا المسكين لا يدري أنه معاقب، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:١٧٨]، فهذه عقوبة، فإذا كان الرسول عليه السلام قال: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فمفهومها: أن شركم من طال عمره وساء عمله، فإذاً طول العمر هنا يكون نقمة؛ لأنه بطول العمر يزداد في المعاصي، والخيرية هي لمن طال عمره لكن مع حسن عمله، فإذا كان طول العمر مما يجني على الإنسان المزيد من المعاصي، والإفراط، والمحاربة لدين الله، والصد عن سبيله، فهذا شؤم عليه، فإذاً هذا هو الاستدراج: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:٤٤ - ٤٥]، وقوله: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:٥٢]، الدنيا ليست النهاية، بل هي عبارة عن مرحلة، ثم يرجع كل إلى الله سبحانه وتعالى ويؤاخذ بما كسب وبما فعل، فينبغي استحضار هذا الأمر كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: (إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يعطي العبد على معاصيه وهو مقيم على المعاصي؛ فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:٤٤]).
فإذاً: لا تنسى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا رأيت شخصاً بهذه الحالة استحضر أن هذه هي عين العقوبة من الله، فمن رأيته يفرح ويفخر لأنه يحارب الإسلام بكل صدق وإخلاص، ويريد أن يطفئ نور الله، ويستأصل شأفة الإسلام، ويصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويخرب المساجد التي أمر الله بتعميرها، ويفرح بذلك؛ فنبشر هؤلاء بقوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:٤٥].
فقوله عز وجل هنا: (نسوا الله فنسيهم) يعني: نسوا الله فلم يذكروه ولم يطيعوه، فنسيهم الله سبحانه وتعالى بأن منعهم لطفه وفضله وخذلهم، ولم يوفقهم إلى الإيمان.
(إن المنافقين هم الفاسقون) أي: الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل بقوله: {كُسَالَى} [التوبة:٥٤]؛ فالفسق أشد من وصف الكسل.