للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد مستنبطة من آيات مسجد الضرار]

يقول القاسمي: قال بعض المفسرين اليمانيين: في الآيات دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة يعني: المؤسس على التقوى.

وفيها: أن نية القربة في عمارة المسجد شرط؛ لأن النية هي التي تميز الأفعال.

وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار؛ لأنه قال تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)) وأراد بالقيام الصلاة.

وقال ابن كثير: في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.

وقد روى الإمام أحمد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم -يعني: اختلطت عليه القراءة-، فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

وذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية: الطهارة من الذنوب والتوبة منها والتطهر من الشرك.

قال الرازي: وهذا القول متعين؛ لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه؛ ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب أن يكون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي.

يقول القاسمي: لا تسلم دعوى التعين، فإن اللفظ يتناول الطهارتين: الباطنة والظاهرة، بل الأقرب هنا هي الثانية؛ وذلك لما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟ قالوا: نستنجي بالماء) وهذا يدل على أن الآية تشمل الطهارتين معاً.

ويقول القاسمي أيضاً: قال القاشاني: لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت مباركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله، بنيةٍ صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى، ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع والكدورة والتفرقة في بعضها، فما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)).

والعوام يعبرون عن هذا مثل هذه العبارات التي ذكرها القاشاني، يقول لك: المكان هذا ريحه طيب، أو له نفسٌ طيب.

وهذه تتفاوت من مكان إلى آخر، فإنك إذا دخلت مكاناً معيناً أو مسجداً معيناً تشعر فيه براحة وبخشوع وببركة، وقد تدخل مسجداً آخر قد لا تجد فيه نفس هذه الراحة، فما مرجع ذلك؟ مرجع ذلك إلى صفاء نية من أسس هذا المسجد، والقبول الذي يوضع لبعض هذه الأماكن هو ثمرة صفاء نيته، وأنه أراد به وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك تجد هذه الراحة النفسية في المساجد التي أسست على السنة وعلى التوحيد، فتجد فيها من الخشوع ومن البركة ما لا تحس أبداً فيما عداها من مساجد أهل البدع.

ثم يقول: ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها، وما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)) لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنياً على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا كان مبنياً على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض، وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء، وأن تبرك المكان وكونه مبنياً على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة؛ وذلك لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)).