[تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم)]
قال تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢].
((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ))، أي: من قحط وجدب وبلاء وغلاء ومرض ونحو ذلك.
((وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) من خوف ومرض وموت أهل أو ولد أو ذهاب مال.
وقوله: ((إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، وبلا شك أن هذا من أعظم ما يفرق بين المؤمن وغيره، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن عنده ثبات عند البلاء واحتساب عند المصيبة، وهذا من آثار الإيمان بالقدر السابق، كما قال تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:٥٨]، ولذلك طالما يتعزى العلماء والصالحون في بلائهم بهذا الأمر، ومن ذلك أن أحد العلماء سلخه العبيديون الفاطميون لما أبى أن يفتي بالفطر من رضمان اعتماداً على الحساب الفلكي كما هو العيد؛ لأنهم كانوا يعتدون للعيد بالحساب الفلكي، وليس برؤية الهلال، وهذا هو مذهب الباطنية الملاحدة، فقال: لا أتحمل وزر تفطير الناس؛ لأنه لم تظهر الرؤية الشرعية، وإنما أنتم تعتمدون على الحساب، فألح عليه الفاطمية بأن يفعل ذلك فأبى، فأتوا برجل يهودي يسلخ جلده وهو حي، فسلخ كل بشرة رأسه، حتى إذا وصل إلى قلبه رق له اليهودي وهو يسلخ جلده، وجعل العالم يقول: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:٥٨]، ويردد هذه الآية، يعزي نفسه بأن هذا قدر سابق ولا يمكن أن يحصل شيء مخالف لما سبقت به المقادير، وهذا من أعظم ما يصبّر المؤمن عند البلاء؛ لذلك تجد المؤمن يتميز تماماً عن الكافر في هذا.
وحكي أن أحد الإخوة الملتزمين كان في حادث اختطاف الطائرة الجابرية التي حصلت في الكويت منذ سنوات طويلة، فكان هذا الرجل في الطائرة وقد اختطفت، والذين فيها مهددون بالقتل كلهم، فكان إلى جواره رجل أمريكي ساحر، والناس كانوا في حالة فزع شديد؛ لأنهم يخافون أن يقتلوا ويؤخذوا رهائن، فينتهي بهم الأمر إلى تفجير الطائرة، فكان الأخ في غاية الثبات، وكأنما يستغيث بالله، ويدعو الله سبحانه وتعالى، ويذكر الله، وظهر عليه الرضا بما يقدره الله، وكان الناس في حالة فزع وهلع وصراخ فتعجب الأمريكي جداً، ولفت نظره حال هذا الأخ، فلم يطق أن يسكت، فقال للأخ: ما بالك لا تخف كما يفعل الناس؟ وما بالي أراك ساكناً ثابتاً مستقراً هادئاً، تذكر الله سبحانه وتعالى؟ فقال له: أنا مسلم، وأنا أؤمن بأن كل شيء يجري بقدر الله عز وجل؛ ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فأنا راضٍ بقدر الله، ومستعد للقاء الله، فالرجل قال له: إذاً: هذا الإسلام الذي يجعلكم تثبتون عند المحن، ولا شك أنه يكون دين الحق، ثم قال له: نحن لو خرجنا من الطائرة ونجونا فسوف أدخل في الإسلام، لكن للأسف الشديد أن في هذه الحادثة قتل أمريكي واحد كان هو هذا الرجل.
الشاهد: أن هذا يلاحظ جداً في المؤمن، وهذا مما يميز به بين المؤمن بالقضاء والقدر وبين غير المؤمن بذلك، وهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنك تتعزى بأنه مهما كانت هذه المصيبة التي حصلت بك فقد سبق بها القضاء والقدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي ثمرة الثبات عند الابتلاء، فالإنسان لابد أن يراقب هذا، وإذا صادفت شخصاً مبتلىً فتأكد تماماً أن هذا المبتلى حتى لو كان حافظ القرآن كله فإنه يحتاج إلى التذكير، فاذكر هذه الآيات عليه، كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:٥١] وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، إذ لا يستطيع أحد أن يمحو شيئاً مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ولا يمكن أن يحصل هذا كما في الحديث: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلا يمكن أن يغير فيها شيء.
وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) (مصيبة) هنا نكرة في سياق النفي، فظاهرها العموم.
((إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: في علمه الأزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، ((إنَّ ذَلِكَ))، أي: حفظه وتقديره على الأنفس، ((عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))؛ لسعة علمه وإحاطته، فلا يقع الأمر إلا موافقاً لما سبق في علم الله عز وجل.