قوله تعالى:{إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}[البقرة:١٤٣] هناك خلاف في تفسير هذه الآية، وباختصار شديد نقول: إن العلم الذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى نوعان: علم غيب، وعلم شهادة، فعلم الغيب هو: علم الله قبل التكليف، وعلم الشهادة هو: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون منا، وكل ما يأتي فالله تعالى يعلمه، والله سبحانه لا يحاسبنا طبقاً لعلمه السابق، وإنما يحاسبنا بعد وقوع ما علمه فينا، فهذا هو الذي يترتب عليه الجزاء، فقوله تبارك وتعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}[البقرة:١٤٣]، وكذلك قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:٣١]، فظاهر هاتين الآيتين قد يتوهم منه الجاهل أن الله يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!! وهذا كفر والعياذ بالله؛ لأن العلم إذا كان حادثاً في حق الله سبحانه وتعالى فمعنى ذلك أن عدم وجوده يكون صفة نقص، وإذا كان يحدث له علم من جديد فمعناه أن هذا العلم لم يكن من قبل! وهذا وصف لله سبحانه وتعالى بعكس العلم والعياذ بالله، وهذا كفر، وهو ما يتوهمه بعض الجهال، لكننا نعلم قطعاً أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فهو يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}[النجم:٣٢]، وقال تعالى:{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون:٦٣] وهذا يعني أن الله يعلمها، وبين الله تبارك وتعالى أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه فقال عز وجل:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران:١٥٤] فانظر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران:١٥٤] بعد قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ}[آل عمران:١٥٤] فهو دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنه إذا كان عليماً بذات الصدور فهو غني عن الاختبار، لا يعزب عنه مثقال ذرة، فنحن نتوقف عند هذا اللفظ بالذات لأن هذا يتكرر في الآيات كثيراً.
فهذه الآية وهي قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:٣١] فيها بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، فقوله {حَتَّى نَعْلَمَ}[محمد:٣١] يعني: حتى نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا لا ينفي أنه كان عالماً به قبل ذلك، بل هو يعلم قبل ذلك، لكن علم الماضي الذي هو صفة من صفات الله لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فالله لا يعاقبك طبقاً لعلمه فيك، لكن يعاقبك طبقاً لما عملته، وهو موافق لعلمه السابق، وفائدة هذا الاختبار: ظهور الأمر للناس، والله هو عالم السر والنجوى، عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله:{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}[محمد:٣١] أي: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء والثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:٣١] أي: نختبرها ونظهرها.
وقال الطبري رحمه الله: ولنبلونكم -أيها المؤمنون- بالقتل وجهاد أعداء الله، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ}[محمد:٣١] يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهلَ الجهاد في الله منكم وأهلَ الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويَعرف ذوي البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق، يقول تبارك وتعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}[آل عمران:١٧٩] وهذه الآية تؤيد هذا التفسير، (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي المؤمنين الصادقين من المنافقين الكاذبين، لأن الله تبارك وتعالى أخبر أن معرفة الناس وتمييزهم الغرض منه أن ينكشفوا لأولياء الله، فيعلم من المؤمن ومن المنافق، من الصادق ومن الكاذب، وهذا يحتمل أن يكون من طريقين: إما وقوع الابتلاءات ثم يتمايز الناس ويظهرون من خلال الابتلاء، وإما من طريق آخر هو معرفة الغيب، وليس هناك سبيل لغير الله أن يعرف الغيب، وليس هناك سبيل للاطلاع على حقائق الناس من خلال معرفة الغيب؛ لأن الله يقول:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}[آل عمران:١٧٩]؛ لهذا فإن الباب مسدود في حق البشر والمخلوقين، ولا يعلم الغيب إلا الله، فلم يبق إلا طريق واحد فقط حتى يعرف الناس الخبيث من الطيب، وهو وقوع الابتلاء في الجهاد وغيره (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم أوليائي ويتميز الناس؛ ولذلك يقول تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}[آل عمران:١٧٩] من اختفاء أموركم وعدم ظهور حقيقة إيمانكم {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[آل عمران:١٧٩] يعني: حتى يميّز أوليائي وحزبي الخبيث من الناس من الطيب، فلا سبيل إلى ذلك إلا بالاختبار والابتلاء وإظهار علم الشهادة حين تقع هذه الأعمال.
يقول الإمام ابن جرير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فعل بهم إليه، فمثلاً تقول: فتح عمر بن الخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحاب عمر وجنوده، ونسب إليه لأنهم يأتمرون بأمره، فهو سبب في ذلك، كما قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين! مصر الله بك الأمصار، وفتح بك البلاد، فقوله:(بك) لأنه كان سبباً لذلك، أما الذي فتح فهم جنوده، فهذه هي عادة العرب، ونظيره حديث أبي هريرة في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمك أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) فهنا نسب الله سبحانه وتعالى المرض والاستسقاء والاستطعام إلى نفسه، وكان ذلك لغيره.
وحكي عن بعض العرب سماعاً: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري، ومعنى ذلك أن بعض العرب كان يشتكي، أو أن المقصود التعبير عن جوع أهله وعياله وعري ظهورهم، كذلك قوله تعالى هنا:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ}[البقرة:١٤٣] يعني ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي، {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:١٤٣] والتاء في قوله: (وإن كانت) تعود على التولية أو الجعل أو التحويل أي: التولية إليها أو الجعل أو التحويل (لكبيرة) أي: ثقيلة شاقة؛ لأن مفارقة الإلف بعد طمأنينة النفس إليه أمر شاق جداً، {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}[البقرة:١٤٣] يعني هدى الله قلوبهم فأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، لكن يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، يقول تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:١٢٥]، ويقول تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:٨٢].