[تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه)]
قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨].
(قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي تخافون أن تتمنوه بألسنتكم مخافة أن يصيبكم فتقهروا بأعمالكم.
(فإنه ملاقيكم) لا مفر من الموت، يقول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقال طرفة: وكفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره إن في الموت لذي اللب عبر كل شيء سوف يلقى حتفه في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده ليس ينجيه من الموت الحذر قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي إن فررتم منه، (فإنه ملاقيكم) فكلمة: (الذي) مع إنها اسم موصول لكنها تضمنت معنى الشرط والجزاء، فقوله: (فإنه ملاقيكم) فيه مبالغة للدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت.
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال حسنها وسيئها فيجازيكم عليها.
وقوله: ((فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)) مثل قول الله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥].
يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس فتمنوا الموت؛ لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم.
يقول: هذا الزعم المجمل هنا: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) بينه بقوله عن اليهود وعن النصارى حين قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨] فرد الله عليهم هذا الزعم بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:١٨].
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:٩٤ - ٩٥]، وقيل: المراد بقوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)) أي: تعالوا نباهلكم حتى يظهر الله الكاذب من الفريقين، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء لله.
وقوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) ثم قال: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) شرطان يترتب الآخر منهما على الأول، أي: فتمنوا الموت إن صدقتم في زعمكم، ونظيره في كلام العرب قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن ترعووا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم إذاً: اليهود لا يتمنون الموت أبداً، وهذا معروف عن اليهود، فشيمتهم التشبث الشديد بالحياة وحب المال، والسبب في عدم تمنيهم الموت هو ما قدمت أيديهم، لكن لم يبين هنا في هذه السورة ما هو الذي قدمته أيديهم، والذي حال دون تمني الموت هو شدة حرصهم على الحياة، كما بينه قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:٩٦] لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم.
((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) هذه الباء سببية، والمسبب انتفاء تمنيهم.
ومن هذه الأسباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:١٨١] والذين قالوا هذا القول الكفري هم اليهود.
فبسبب هذه المذكورات لم يتمنوا الموت، بل هم كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:٩٦] فهم قد أيقنوا بالهلاك ويئسوا من الآخرة، قال تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:١٣] أي: أن هؤلاء اليهود آيسون من رحمة الله، ولذلك لم يتمنوا أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة.
((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) الغضب يكاد يكون عَلماً على اليهود، وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:٧] وهم اليهود كما جاء في الحديث الصحيح، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] وهم النصارى.
فغضب الله من خصائص اليهود؛ لأنهم أحق الناس بصفة الغضب، وهم الأمة المغضوب عليهم.