[الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من الله عز وجل]
ومن الآيات التي اقترن فيها الكتاب بالحكمة، وهي حتماً -بالشروط التي ذكرناها- يُقصد بها السنة: قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:١٥١].
ومنها: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:١٢٩]، يعني: القرآن والسنة، وهي دعوة إبراهيم، وقد استجيبت.
وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:١١٣]، فالكتاب مقترن بالحكمة في سياق الامتنان مخاطباً به الرسول عليه السلام، ولهذا لابد أن تفسر الحكمة بأنها السنة.
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة:٢٣١].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:٣٤]، والذي كان يتلى في بيوت نساء النبي عليه السلام هو القرآن والسنة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي: قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٦ - ١٩].
والشاهد هنا في قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، فهذا تعهد وضمان من الله أنه سوف ينزل أيضاً ما يبين القرآن الكريم، أي: إن علينا إظهاره بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وعلينا كذلك تبيين ما فيه من الأحكام وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والتقييد والإطلاق، وما إلى ذلك، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
من ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:٥٠].
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:٥٢ - ٥٣]، وهل هداية الرسول عليه السلام إلى القرآن فقط أم أنه يهدينا إلى القرآن وإلى السنة؟
الجواب
يهدينا إلى القرآن وإلى السنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي).
فالعصمة من الضلال مشروطة بشرطين، فكل من ادعى أنه مهتدٍ وأنه بعيد عن الضلال، وفي نفس الوقت يدعي أنه يتبع القرآن فقط فنقول له: أنت ضال، ولذلك قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة، فقال لك: دعنا من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال.
أي: أعطه هذا الختم فوراً، فمثل هذا ضال، ولا كلام في ذلك، فأي واحد يقول: إنه يأخذ القرآن فقط، ويظن أن هذه الكلمة سوف تشفع له، نقول له: أنت ضال قطعاً؛ لأن العصمة من الضلال لا تكون إلا بالقرآن مع السنة معاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي).
ومعروف أن ما علق على شرطين لا يقوم بأحدهما؛ لأن الشرط إذا عدم لا يوصل إلى الحقيقة أو الذات، فبالتالي لا يمكن أن يعصم من الضلال من قال: آخذ القرآن فقط، بل نحن نقطع جزماً بأنه ضال، أما من قال: آخذ القرآن والسنة فهو المهتدي.
ودليل آخر من أدلة القرآن الكريم على أن السنة وحي: قول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدَاً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٢ - ١٤٣]، هل الجعل هنا شرعي أم كوني قدري؟
الجواب
الجعل هنا شرعي، فقوله: ((وَمَا جَعَلْنَا))، يعني: ما شرعنا.
ويُفهم من الآية أن الذي أمر باستقبال بيت المقدس هو الله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا))، يعني: ما شرعنا وما أمرناكم باستقبال القبلة التي كنتم عليها ((إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)).
ولهذا نسأل سؤالاً: أين يوجد في القرآن الكريم الأمر باستقبال بيت المقدس؟ الجواب: لا يوجد في القرآن، ومع أنها غير موجودة في القرآن فالله سبحانه وتعالى يقول هنا: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ))، وهذا دليل قرآني واضح وضوح الشمس على أن السنة وحي كالقرآن؛ لأن هذا (الجَعل) ما حصل في القرآن، وإنما حصل في السنة، وعرفناه من السنة، وما وجدناه في القرآن على الإطلاق.
قال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:١٤٣ - ١٤٤] إلخ الآيات، فهذه الآيات نزلت عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وهي تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس كان مشروعاً من قبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مع ميله الشديد إلى التوجه إلى الكعبة لكونها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يتوجه إليها، بل كان ملتزماً بالتوجه إلى بيت المقدس هو وأصحابه، وإن كان ذلك بخلاف رغبته، لكن استقبلها انقياداً لأمر الله.
وتدلنا أيضاً على أن التزامهم لذلك كان حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحويل، وهذه الآية مع ذلك لم تشرِّع التوجه إلى بيت المقدس؛ لأنها إنما أنزلت في نهاية العمل، فهي تشرع التوجه إلى الكعبة، وليس هناك آية أخرى في القرآن تبين لنا حكم التوجه إلى بيت المقدس، فدلنا هذا كله على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا عاملين بحكم لم ينزل به القرآن، وأن عملهم كان حقاً وواجباً عليهم.
إذاً: كان التوجه إلى بيت المقدس وحياً من الله، لكن ليس في القرآن، فلم يبق إلا أنه وحي السنة.
وقال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:٣]، والذي أخبره عن زوجته لا نجده في القرآن، وإنما نجد في القرآن إشارة مجملة فقط.