فهذه الآية تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم مراتب، وأن ترتيبهم مبني على السبق، فالأسبق أفضل من الذي يأتي بعد ذلك، فالصحابة مراتب، والفضل للسابق إلى الإسلام.
وأيضاً هذه الآية تدل على أدب مهم جداً، وهو تنزيل الناس منازلهم، وهذا وإن جاء فيه حديث ضعيف:(أنزلوا الناس منازلهم)، أو:(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، إلا أن نفس معنى هذا الحديث ثابت كما في قوله تبارك وتعالى:{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}[الأعراف:٨٥]، فيؤخذ من الآية معنىً عام: أن من استحق مرتبة معينة فلا ينبغي إنزاله عنها، بل ينزل كل إنسان المنزلة اللائقة به.
وأيضاً الآية فيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب، فالإنسان ينبغي أن يتفنن حينما يريد أن ينفق أو يعمل عملاً في سبيل الله، مثلاً: إنسان يريد أن يخرج صدقة جارية، أو أن يعمل عملاً صالحاً، فعليه أن يبحث عن أنفع هذه الأعمال للمسلمين، وللدين، وللدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون فقيهاً إذا أراد أن يتجر مع الله سبحانه وتعالى، وأن يستثمر نفقته في الأعمال الصالحة؛ فينبغي أن يبحث عن السنن الحسنة.
والأحوال القلبية لها تأثير خطير جداً في هذا الباب، لحديث:(سبق درهم ألف درهم)، يعني: تصدق بدرهم والآخر تصدق بألف درهم، فارتفع صاحب الدرهم إلى مقام أعلى من الذي تصدق بألف درهم، بسبب الأحوال القلبية، فهذا الرجل الذي تصدق بدرهم ما كان يملك سوى درهمين، فتصدق بدرهم واستبقى لأهله درهماً، أما الآخر فكان رجلاً غنياً ثرياً أتى إلى زاوية وركن في الخزينة وأخذ منها مبلغاً قدره ألف درهم، وهذا شيء صغير في جانب الثروة الكبيرة، فلم يتصدق بنصف ماله، بل بجزء يسير منه، فهذا هو السبب.
ثم يقول تعالى:((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) هنا جاء الاستئناف، حيث كانت الآية التي قبلها ((من قبل الفتح)) قبل: مضاف، والفتح: مضاف إليه، أما (من بعد) في الآية التالية فهي مبنية في محل نصب.
قوله تعالى:((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي بعد أن جاءت المفاضلة من الله سبحانه وتعالى بين الطرفين قال: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وكل واحد من الفريقين وعد الله الحسنى.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، أي: من النفقة في سبيله وجهاد أعدائه وغير ذلك، فيجازيكم على جميع ذلك.
قال ابن كثير: أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.