[حكم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها]
التنبيه الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، أي أن الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) تساوي ما ذكر اسم غيره عليه، فـ القاسمي يميل إلى هذا، ويقول: هذا هو الأظهر في تأويل هذه الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:١٤٥] يعني: لا تشمل ذبيحة المسلم الذي لم يسم، لقوله تعالى بعد: ((أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) وهذا من باب مراعاة النظائر في القرآن، فالنظائر القرآنية أولى ما يلتمس المراد بها.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، وذبائح المجوس.
وقد حاول بعضهم أن يقويه.
وقوله: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) لأن من أكل الميتة أو ما ذبح على النصب يفسق، وإذا استحلها يكفر، فلو أن رجلاً أكل الميتة وهو معتقد أنها حرام في غير حالة الضرورة فإنه يكون فاسقاً، لكن لو اعتقد أنها حلال حتى لو لم يأكلها فهذه ردة وكفر.
فقوله: (وإن أطعتموهم) يعني: في استحلال الحرام، أو تحريم الحلال (إنكم لمشركون).
يقول القاسمي: وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً.
واحتج البيهقي بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه.
قالت: -يعني: عائشة - وكانوا حديثي عهد بكفر)، رواه البخاري.
قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها؛ لأنهم لا يعرفون هل سموا أم لم يسموا، فلما قال لهم: (سموا عليه أنتم وكلوه)، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن التسمية شرط لذبيحة المسلم، ولذا لم يرخص لهم إلا مع التحقق من وجود التسمية.
يقول الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة؛ لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يُعلم هل وقع في الذكاة المعتبرة أم لا.
وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه (سموا أنتم) ومعنى (سموا أنتم) يعني أن هناك شكاً في نحوهم سموا أم لا، وكأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا.
وهذا من الأسلوب الحكيم، ومما يدل عليه -أيضاً- قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:٥]، فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم هل سموا أم لا.
هذا وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وأخذوا بظاهر هذه الآية.
يعني أنهم فسروا قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) إما بأن يكون قد أهل لغير الله به، أو بأن تترك التسمية عليه حتى لو كان الذابح مسلماً؛ لأنه يصدق عليه ظاهر الآية، وهو أنه مما لم يذكر اسم الله تبارك وتعالى عليه.
يقول: وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً عمداً ترك التسمية أو نسياناً، فالظاهر يدل على هذا، واحتجوا -أيضاً- بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:٤] وهنا أمر بذكر (بسم الله).
واحتجوا -أيضاً- بالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي علي وأبي ثعلبة: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل) يعني صيد الكلب المعلم يباح، لكن صيد الكلب الجاهل لا يباح عند أهل العلم، وفي هذا بيان شرف الكلب المتعلم على الكلب الجاهل، فتباً لمن يحذرون الناس من طلب العلم ويزهدونهم فيه ويفيضون في ذكر فضائل الجهل، وأن الصحابة كان منهم من لا يعرف كذا ولا كذا ولا كذا، والعياذ بالله! فإذا كان بالعلم فُضل الكلب على أخيه الكلب، فكيف لا يُفضل الإنسان المؤمن المتعلم على الذي لا يتعلم؟! ولكن هنا شرطان: أن يكون الكلب معلماً، وأن تذكر اسم الله، فدل على أنه إذا لم يذكر اسم الله فلا يأكل، وفي حديث رافع بن خديج: (ما أنهر الدم -يعني: أراق الدم- وذكر اسم الله عليه فكلوه)، وهو في الصحيحين أيضاً، وفي حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه) وفي حديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، فمن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)، أخرجاه.
ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصل ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصل، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.