للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام]

فعلى القول الأول أن إبراهيم جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فالمعنى: صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه، يعني: في ولده وولد ولده، وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم، لأن إبراهيم عليه السلام تسبب في بقائها فيهم بأمرين: أحدهما: وصيته لأولاده بذلك، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيوصي به السلف منهم الخلف، فهو الذي سن فيهم هذه السنة، يوصيهم بالتوحيد في حياته، ثم اقتدى به أولاده من بعده، فكل واحد منهم يوصي من يأتي بعده بالتمسك بـ (لا إله إلا الله) كما أشار إلى ذلك الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:١٣٠] * {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣١ - ١٣٢].

الأمر الثاني: سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، فإنه كان يسأل الله لهم الإيمان والصلاح، كما قال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:١٢٤] يعني: واجعل يا رب من ذريتي أئمة.

وقال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:٤٠]، وقال أيضاً: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:٣٥]، وقال عنه هو وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:١٢٨ - ١٢٩]، فأجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني: استجاب الله هذه الدعوة لإبراهيم عليه السلام، ولذلك تسبب إبراهيم بهذه الدعوة في بعثة محمد عليه السلام؛ لأن من هذه الأسباب الدعاء، وهو قال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)، وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، ولذلك إذا أطلق على إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فإنما المقصود أبو الأنبياء من بعده، أما الذين قبله فلا يدخلون في ذرية إبراهيم؛ لأنه لم يكن قد خلق، أما إبراهيم عليه السلام فكافأه الله عز وجل بأن جعل كل الأنبياء الذين أتوا من بعده في ذريته، فأول ذلك إسحاق، ثم رزق إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل، ثم من نسل يعقوب جاءت أنبياء بني إسرائيل، ولم تخرج عنهم النبوة إلا ببعثة النبي عليه السلام من نسل إسماعيل أخي إسحاق، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:٢٧]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:٢٦].

أما على القول الثاني في قوله: (وجعلها كلمة) وهو أن الذي جعلها هو الله سبحانه وتعالى، فلا إشكال، ويكون التفسير: وجعلها كلمة باقية في المؤمنين من عقبه.

وقوله: (لعلهم) يعني: لعل المشركين من عقبه أو من ذريته (يرجعون) أي: عن الشرك إلى التوحيد.