للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال المفسرين في معنى قوله: (إلا من ظلم)]

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)) أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر بالقبيح من القول، (إلا من ظلم) إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه، ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه وتعالى، حتى إنه يجيب دعاءه؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم كما جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه داعياً إلى الإسلام: (اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

قوله: (إلا من ظلم) يعني: إلا جهر المظلوم إذا دعا على ظالمه، أو إذا تظلّم به عند القاضي أو الحاكم، وحكى هذا الظلم الذي وقع عليه، فهذا أيضاً لا يدخل في قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)).

ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة كما جاء عن السلف، حيث ذكروا أنواعاً منه، وليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على أنواع من الظلم.

فمن ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم)، وإن صبر فهو خيرٌ له؛ لأنه إذا دعا عليه فقد أخذ حقه، وإن ادخرها للآخرة فهذا أفضل.

وعن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه فتحول عنه، والقراء: هو ما يؤدى للضيف وعند العرب فضلاً عن المسلمين من المذلة والمعرة أن الضيف يهجر الشخص الذي أضافه، ويتحول عنه ثم يثني عليه.

وكلمة الثناء تطلق على الخير، وتطلق على الشر، تقول: أثنى عليه خيراً، وأثنى عليه شراً، للحديث الذي في الجنازة (لما مرت جنازة رجل، فأثنوا عليها خيراً، ولما مر رجل آخر سيئ فأثنوا عليه شراً).

والثناء في هذا السياق المقصود به الشر، يعني: شنع عليه، واشتكى منه وجهر بمذمته؛ لأنه قصر في ضيافته؛ لذلك يقول مجاهد: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، يثني عليه يعني: يذكره بالسوء والتقصير الذي أولاه في الضيافة.

وعن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن، فهذا جهر بالسوء.

وفي رواية: هو الضيف المحول رحله فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.

قال ابن كثير: وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى في ذلك؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم).

وروى الإمام أحمد عن المقدام بن أبي كريمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم ضاف قوماً، فأصبح الضيف محروماً، فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله)، يصبح من حق الضيف أن يأخذ بقدر قراه.

وروى هو وأبو داود عنه أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه).

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على قارعة الطريق -أو في وسط الطريق- فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: ما لك؟! قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبداً)، وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب.

وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال: هو الرجل يشتمك فتشتمه؛ لكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، وإذا شتمك فلك أن تشتمه، (إلا من ظلم) يعني: له أن يجهر بالسوء، فإذا شتمك عياناً، فلك أن تقتص منه بأن ترد بنفس ما شتمك به، إلا إذا كانت كذباً، فلا تكذب مثله، وذلك لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:٤١].

وقال: قطرب في معنى الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، أي: إلا من أكره على أن يجهر بالسوء من القول.

يعني: أكره كأن وقع تحت التعذيب أو الإكراه، بحيث يجهر بالسوء من القول فهذا يباح له أن يجهر به.

وسئل المرتضى عنها، فقال: لا يحب الله ذلك ولا يريده لفاعله.

(إلا من ظلم) وذلك مثلما فعل مردة قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعذيب والضرب حتى يكرهوهم على شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك عمار فخلّوه وصلبوا صاحبه، فأجاز لمن فُعِلَ به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وأن يجهر بالسوء مع اطمئنان قلبه بالإيمان، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:١٠٦]، فكانت هذه الآية مبينة بما في قلب عمار من شحنة إيمانية قوية.

قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، الآية تعم كل أنواع الظلم، وهذا مجرد ضرب أمثلة لهذا الظلم، سواء قلنا: إنها تعني حرمان الضيف من القرى.

أو بمعنى: إلا من أكره على النطق بالسوء من القول، إلى غير ذلك مما ذكرنا.