[تفسير قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن)]
قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:٦].
روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً.
أي: كان الواحد من الإنس إذا نزل في الوادي يهيم في الظلام بالليل فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي، بدلاً من أن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى فإنه يستعيذ بزعيم الجن سكان هذه المنطقة، فزادهم ذلك إثماً، أي: إما زاد الكفار إثماً وإما زاد الجن أنفسهم رهقاً وإثماً.
ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن، وأن رؤسائهم تحميهم منهم.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً.
وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله، قال: فيزيدهم ذلك رهقاً أي: خوفاً.
وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وذلك لأن التعوذ بغير الله سبحانه وتعالى من الشرك، ولذلك نزلت سورة المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره.
قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:١ - ٣] إلى آخره.
وقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١].
إذاً التعوذ والاحتماء والالتجاء لا يكون إلا بالله عز وجل وحده دون غيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ومنها: ما روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء، حتى يرحل من منزله ذلك).
قال بعضهم: هذا الحديث فيه تفسير آية الجن، وهي قوله تعالى: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)).
فالحديث أتى بما يبطل هذا الشرك.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بكلمات الله التامات) هذا أحد الأدلة الواضحة التي استدل بها أهل السنة على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق؛ لأن كلمات الله لو كانت مخلوقة فهل يجوز التعوذ بمخلوق؟ لا، هذا شرك، فما دام الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا أن نتعوذ بكلمات الله فإن هذا يدل على أن كلام الله ليس مخلوقاً وليس محدثاً.
والضمير المرفوع في قوله: ((فزادوهم رهقا)) عائد على الجن يعني: فزاد الجن الإنس باستعاذتهم بهم غياً وإثماً وضلالاً، أو أن الضمير يكون عائداً على الإنس يعني: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم رهقاً وكبراً وعتواً، لأنهم لما رأوا الإنس يخافونهم ازدادوا كبراً وعتواً وتسلطاً عليهم.
والرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال.
وموضوع الجن موضوع ذو شجون، وقد سبق أن تكلمنا فيه بالتفصيل، وخاصة عند التعليق على الظواهر المرضية والشيطانية التي فشت وتغلغلت في عقول كثير من الناس في هذا الزمان، فلن نعيد الحديث؛ لأن من أبغض الأشياء إلينا أن نعيد هذا الكلام على موضوع الجن، وأعتقد أنه بدأ شيء من الحصار في موجة الجن هذه التي غلا فيها كثير من الناس الذين امتثلوا للدعوة، وكما قلت مراراً: أي إنسان فيه خير لا يستمر أبداً في هذا الموضوع.
فنرجو أن تواجه وتحارب هذه الظاهرة تماماً ولا يبقى لها وجود.
ونعود إلى ما كنا عليه من الاشتغال بمعالي الأمور، وأنت نترك هذه المصطلحات التي لا تليق بالمسلم العادي فضلاً عن الملتزمين والدعاة.