[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم)]
نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين وحذرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:٩ - ١٠].
((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ))، أي: بطاعة الله وما يقربكم منه عز وجل، ((وَالتَّقْوَى))، أي: في اجتناب ما يأثم، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، يعني: سيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم.
ثم شجع الله سبحانه وتعالى المؤمنين على قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأرشدهم إلى ألا يبالوا بمناجاة أعدائهم، وبين لهم أنها لا تضرهم ما داموا على وصاياه، متكلين عليه تبارك وتعالى، فقال عز وجل: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، أي: النجوى التي ذمها الله سبحانه وتعالى؛ و (أل) هنا للعهد، لأن هناك من النجوى ما هو خير، كما قال عز وجل: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
إذاً: النجوى يمكن أن يتناجى أناس بكلام فيه بر وتقوى وخير، لكن قوله تبارك وتعالى هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، هذه (أل) العهدية، والمراد بها النجوى التي سبق ذمها، وليست كل نجوى.
وهي كقول الله تبارك وتعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:١٦] الرسول (أل) في (الرسول) للعهد؛ لأن الرسول المقصود به هنا موسى عليه السلام.
ومثل قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن، كذلك هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي: التي ذمها الله، والمزين لهذه النجوى بالسر والحامل عليها هو الشيطان.
{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} المقصود هنا: إما الشيطان وإما التناجي المذكور، يعني: وليس الشيطان بضارهم شيئاً، أو: وليس التناجي الذي يحصل بأمر من الشيطان بضارهم شيئاً، ((إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: بمشيئته عز وجل.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، يعني: بالمضي في سبيله، والاستقامة على أمره، وانتظار النصر على إثره.
قال القاشاني: إنما نهوا عن النجوى لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوى ويتأيد بعضها ببعض فيما هو سبب الاجتماع، لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد، فإذا كانت شريرة -مجموعة من الناس غلب عليها الشر أو هي من الأشرار- فإنهم يتناجون في السر، ثم اجتماعهم يزيد ملكة الشر عندهم.
ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد هذا النهي بعد قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، بالإثم الذي هو رذيلة القوى البهيمية، والعدوان الذي هو رذيلة القوى الغضبية، {وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، التي هي القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطانة.
ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات؛ لأن هذا يقوي المؤمنين ويؤزهم أزاًً على المزيد من المناجاة بالبر والتقوى، فقال: ((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى)).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك إيذاء لمؤمن، فقد روى الإمام أحمد بسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا الحديث متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا انفرد بإخراجه مسلم.
وجمهور العلماء على مراعاة الأخذ بهذا الشرط الذي أشار إليه ابن كثير؛ حيث ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على المؤمن.
قالوا: إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزن هذا الثالث، فجمهور العلماء على تأويل الحديث بأنه: إذا تأكدتم أن ذلك لا يحزنه فلكما أن تتناجيا دونه.
وأخذ بعض العلماء بظاهره: أن تناجي الاثنين دون الثالث يحزنه، فبالتالي يحمل الحديث على ظاهره ولا داعي لهذا الشرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يحزنه، إذاً هو يحزنه حتى لو ظن ظان أنه لا يحزنه.
فالأحوط والله تعالى أعلم الأخذ بظاهر الحديث، فلا يتناجى الإنسان مع أخيه إلا إذا كان العدد أكثر من ثلاثة؛ ففي هذه الحالة يخرج من مخالفة الحديث، فلو كانوا أربعة مثلاً لم ينه من أن يتناجى اثنان دون الاثنين الآخرين.
ومما في معنى هذا الحديث: أن يتكلم الاثنان بصوت عال لكن بلغة لا يفهمها الثالث، فهذا أيضاً في معنى المناجاة؛ نعم هي ليست منجاة لأنها ليست في السر؛ لكنها تؤدي إلى نفس الشيء، لأنه ربما يظن أنهما يدبران له سوءاً، أو يذكرانه بسوء في كلام لا يفهمه، وتوجد حالات مستثناة يمكن استنباطها.