[تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)]
قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، والاسم هنا معناه: الذكر، أي: بئس الذكر الفسوق بعد الإيمان.
فالشاهد اللغوي على أن الاسم يطلق ويراد به الذكر قول العربي: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل بالآية: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق.
في قوله تعالى: ((بَعْدَ الإِيمَانِ)) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، يعني: لا يليق بمن كبر وتاب أن يفعل هذه الأفعال، على حد قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل فالوجه الأول هو استقباح الجمع بين صفة الإيمان وصفة الفسق؛ لأن الإيمان يحرم الفسق ويزجر عنه، فالمعنى: بئس الشأن بالنسبة للمؤمن أن يقع في هذا الفسوق.
الوجه الثاني في الآية: أنه كان يقال لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التأويل متعلقة بالنهي عن التنابز.
أي أنه على التفسير الأول جاء: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)) وانتهى الكلام، ثم استؤنف معنى جديد: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: يستقبح من المؤمن أن يجمع بين الإيمان وبين الوقوع في الفسق؛ لأن الإيمان يأبى الفسق ويحرمه؛ فلا علاقة بين الجملتين إلا من وجه معين، وهو أن التنابز في حد ذاته نوع من الفسق والمعصية.
وعلى الوجه الثاني وهو أن معنى: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)): بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه وإسلامه، تكون الجملة متعلقة بقوله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)).
الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن.
أي: فيكون قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)) كما تقول لمتحول من التجارة إلى الفلاحة: بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، فكذلك هنا: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: بئس أن يجعل من فسق غير مؤمن.
واختار ابن جرير الوجه الثالث، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن كما أنه غير كافر فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد.
وهنا إشارة إلى معنى معين في الوجه الثالث، وهو أن المعتزلة يذهبون إلى أن الفاسق غير مؤمن ولا كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، مع أنهم يحكمون عليه في الآخرة بالخلود في النار، لكن هذا في الدنيا قريب من مذهب الواقفة الذين يتوقفون في بعض المسائل.
فاختيار الإمام ابن جرير للمذهب الثالث ليس موافقة للمعتزلة في ضلالهم ورأيهم، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، فاقتضى الكلام ختم الآية بالوعيد؛ لأن الآية ذكرت هذه المناهي، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم، يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وقدم على معصيتنا بعد إيمانه فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن بالألقاب فهو فاسق: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقاً.
ثم ضعف الإمام ابن جرير الوجه الثاني قال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه أو بقبيح ركوبه ما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عما كان ركب قبل التوبة من القبيح فيختم آخرها بالوعيد.
((وَمَنْ لَمْ يَتُبْ))، أي: من نبز أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو سخر منه: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.