تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً)
قال الله حكاية عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:٢٩].
((ويا قوم لا أسألكم عليه)) أي: على تبليغ التوحيد ((مالاً إن أجري إلا على الله)).
قال القاسمي: قوله: ((ويا قوم لا يسألكم عليه مالاً)) أي: أنتم عندكم الغرض والغاية في كل أمر محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، أنا لا أنازعكم في أموالكم ولا أطلب منكم مقابلاً، فتنبهوا لغرضي أي: لست ممن يتستر وراء الدين للحصول على مكاسب دنيوية أو أموال.
ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً؛ وذلك بعد أن قال في الآية السابقة: ((أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ))، أنكر عليهم في هذه الآية وكأنه يقول لهم: لماذا تكرهون الحق؟ ولماذا أنتم لهذه البينة كارهون؟ هل أنا أطلب في مقابل تبليغكم هذا الحق مالاً، فلذلك تكرهون دعوتي؟! أنتم تزعمون أنكم عقلاء فتدبروا، أنا لا أريد منكم منفعة أو مالاً، فما المسوغ لكراهة الحق أو الدعوة، وهي لا تنقصكم من دنياكم شيئاً؟ فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع -يعني: بزعمهم- إلا بطردهم، لكن رد عليهم نوح عليه السلام: ((وما أنا بطارد الذين آمنوا)) أي: لا أستطيع أن أطرد المؤمنين ولا أستجيب لهذا أبداً؛ لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٥٢] أي: من رزق.
{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:٥٢ - ٥٣] بلى {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:٥٤].
((وما أنا بطارد الذين آمنوا))؛ لأن طردهم قد يفتنهم عن الإيمان، ويفتن غيرهم من الفقراء والضعفاء عن أن يدخلوا في الدين، ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه.
((إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ))، فلا آمن أن يشتكوني إلى ربي إن أنا طردتهم، أو المعنى: إنهم يلاقون ربهم ويفوزون بقربه فكيف أطردهم؟! ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: فتخافون بسبب جهلكم لحوق خستهم بكم لمشاركتكم إياهم في الإيمان، وهذا من جهلكم؛ لأن خستهم ليست مانعة من الإيمان، وماذا يضركم -أيها الأغنياء- إن أسلمتم كما أسلموا؟! فلا يستلزم من إيمانكم أن تشاركوهم في صفة الخسة أو في صفة الضعف.
وقوله: ((تجهلون)) أي: لا تعرفون ما هي الموازين التي تقرب العبد من الله أو تبعده عنه؟! إنها موازين التقوى والعمل الصالح، وليس أعراض الدنيا؛ لكن بسبب أنكم تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه؛ لذهاب عقولكم في الدنيا، فأنتم تسفهون وتؤذون المؤمنين وتسمونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير وأحسن منكم عند الله، وأنهم أكرم منكم على الله، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:٥٣]؟ بلى.
لقد أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه عز وجل فقال: ((ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم)) أي: فإن طردتهم فمن يمنعني من انتقامه سبحانه ومن يدفعه عني؟! وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً، وإنما لم يصرح به لأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم لإيمانهم بالله واليوم الآخر.
((أفلا تذكرون)) أي: أفلا تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟! قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن.
أي أن المؤمن ليست قيمته لا بماله ولا بشكله، ولا في أعراض الدنيا التي لديه أو في منصبه، إنما قيمته أنه مؤمن شهد شهادتي الحق، وانضم لحزب الإيمان، فهذا يعظم حرمته ويرفع شأنه، ويحرم الاستخفاف به، وإن كان فقيراً عادماً للجاه والمال متعلقاً بالحرف الوضيعة؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح ووصفه للرؤساء لما طلبوا طرد من عدُّوه من الأراذل بالجهل.
وهذا نظير قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:٥٢].