[تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)]
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، أي: إلا لهذه الحكمة وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتم صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: اختلف العلماء في معنى قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) فقال بعضهم: المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:٨٩]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان.
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) من القتل لا من القتال.
أما القراءة الأخرى وهي قراءة حفص عن عاصم {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:١٩١] ليس فيها إشكال، لكن إذا قلنا: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) على هذه القراءة يكون المعنى: فإن قتلوا بعضكم، فأطلق الكل وأراد البعض.
ثم يقول: ومن شواهده العربية قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد فقوله هنا: (فسيف بني عبس وقد ضربوا به) يفهم من الشطر الثاني أن المقصود بسيف بني عبس الذي ضربوا به هو أن الذي ضرب به هو واحد، لكن نسب السيف إليهم جميعاً.
يقول: فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي.
من ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:١٤]، بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:٩٩].
وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً؛ لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبراً عليه.
وهذا كما قلنا: عبودية اختيارية، وعبودية اضطرارية، ومعنى العبودية الاضطرارية: أن سنن الله وأحكام الله تنفذ على الكافر رغماً عنه، إذا شاء الله له أن يولد يولد، وإذا شاء الله له أن يمرض يمرض، وإذا شاء الله له أن يموت في وقت معين يموت في نفس هذا الوقت، وإذا شاء الله أن يعزه يعتز، أو يذله يذل وهكذا، فأفعال الله وقضاء الله ماضية فيه لا انفكاك له عنها، فهذه هي العبودية الاضطرارية.
ثم يقول: ويدل له قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:١٥] والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله عز وجل، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعاً وبعضهم يفعله كرهاً.
أي: فالجميع في حالة العبودية، فعلى هذا الأساس اللام في قوله: (إلا ليعبدون) لام التعليل، أي: لإرادة أن يعبدون.
إذاً: الإرادة هنا إرادة شرعية.
يقول الشنقيطي: وعن مجاهد أنه قال: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليعرفوني، واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] ونحو ذلك من الآيات.
وعن مجاهد أيضاً في معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره.
وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: ((ليعبدون)) إرادة دينية شرعية، وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل بطاعة الله، لا إرادة كونية قدرية؛ لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك، بدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:١ - ٣] إلى آخر السورة.