[تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)]
قال تبارك وتعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:٢٥].
(هم الذين كفروا) إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهما خلاف، واصطلحوا ولم يبق بينهما نزاع، بل الخلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم وصدوا الهدى أيضاً، وازدادوا كفراً وعداوة.
والخطاب للرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، فمن الذي كف أيديهم عنكم؟ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:٢٤] يعني: كان الله يرى فيه المصلحة، وإن كنتم لا ترون ذلك.
ثم بين هذه المصلحة فقال: إن الكفار ما زالوا كفاراً بل زادوا كفراً؛ لأنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأحصروكم عن دخول المسجد الحرام، فهذه إشارة إلى أن من الحكم العظيمة في أن كف الله أيديهم عنكم وأيديكم عنهم حماية للمؤمنين المستضعفين الذين كانوا يخفون إسلامهم بمكة؛ لأنكم إذا دخلتم وقاتلتموهم، ولا تعرفون إخوانكم الذين يخفون إسلامهم؛ كنتم سوف تقتلونهم، فهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى كف أيديهم ليس لأنهم يستحقون النجاة والسلامة من القتل، كما قال الشاعر: داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم فبين الله سبحانه وتعالى أن هناك كفاراً لم يكف الله أيدي المؤمنين عنهم وأيديهم عن المؤمنين؛ إكراماً لهم؛ لأنهم حتى مع وقوع الصلح والهدنة ما زالوا متصفين بصفة الكفر، وما زالوا يصدون الناس عن دين الله، فالاختلاف باق، والنزاع قائم، وهم ما زالوا كفاراً، بل لا كفار غيرهم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:٢٥] فكان هذا إحدى الحكم من هذا الكف؛ لأنه لو قدر أن يكون قتال كان سيؤدي إلى هلاك المؤمنين المقيمين داخل مكة، الذين يخفون إسلامهم وإيمانهم؛ لأن الصحابة كانوا سيقتلونهم دون أن يعرفوهم؛ ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ)) فهذا كله كان إكراماً لهؤلاء المؤمنين.
((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ)) أي: أنتم لا تعرفونهم، فهم مستخفون في مكة لا يظهرون إسلامهم، ففي الظاهر أنهم مع المشركين، فلو حصل قتال سيخرجهم المشركون معهم ويجبرونهم على القتال، وبالتالي المسلمون سوف يقتلون إخوانهم دون أن يعرفوا أنهم مسلمون.
((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا)) لو انفصل معسكر المؤمنين في مكة والمؤمنات عن الكفار حينئذٍ لنزل العذاب على الكفار.
((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن كانت هذه هي الحكمة من أن كف الله سبحانه وتعالى أيدي الفريقين، كان الكف محافظة على من في مكة من المسلمين ليخرجوا منها، ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات.
قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الهدي: ما يهديه الحاج أو المعتمر إلى مكة من النعم من غير سبب موجب، والمراد بالموجب هنا: ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب ترك واجب أو فعل محظور في الإحرام أو الإحصار أو التمتع.
((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)) قال ابن جرير: أي: محل نحره، وذلك داخل الحرم، وهو الموضع الذي إذا صار إليه حل نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي هو الحرم، وقد قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:١٩٦] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:١٩٦].
ما هو محل الهدي للمحصر؟ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، أما أبو حنيفة فهو يقول: المحل: هو اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل، ويظهر منشأ الخلاف بين الشافعية وأبي حنيفة: أن الشافعي يرى أن المحل اسم الزمان الذي يحصل فيه التحلل، وأبا حنيفة: يرى أنه اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل.
فجمهور العلماء الإمام الشافعي ومالك وأحمد قالوا: إن محل الهدي للمحصر هو موضع الحصر حلاً كان أو حرماً، سواء كان داخل الحرم أو في الحل خارج الحرم.
وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٣٣]، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:٩٥]، وكلام أبي حنيفة أدلته قوية، فبماذا يجيب عنه الجمهور؟ أبو حنيفة يقول: لا ينحر الشخص الذي أحصر الهدي إلا داخل الحرم حتى لو أحصر؛ لأن الله قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} إشارة إلى أنه لابد أن يكون في الحرم، وقال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا كلام جيد، فبم يرد عليه الجمهور؟ الرد الأساسي هو: أن هذا في الشخص الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] لكن شخص أحصر ومعه الهدي، والعدو هو الذي منعه، فكيف سينحره في الحرم وهو محصر؟! فالآية في الآمن الذي سيكون محل هدية البيت العتيق أو في الحرم؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه أن يبعثه إلى الحرم، وإن لم يستطع ذلك ينحره في محل الإحصار.
إذاً: الشافعي يرى أن المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وعلى هذا حمل قوله تعالى: ((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ))، وأبو حنيفة يرى أنه اسم للمكان كما بينا.