أخيراً: فيما يتعلق بأسرار ارتباط هذه السورة الكريمة سورة القتال مع السورة التي قبلها وهي سورة الأحقاف، والسورة التي بعدها وهي سورة الفتح، فلا يخفى ارتباط أولها بآخر الأحقاف؛ لأن آخر آية في الأحقاف هي:{بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}[الأحقاف:٣٥]، ثم بدأ في سورة القتال بقوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:١]، فهنا اتصال وتلاحم واضح بين آخر الأحقاف وأول سورة محمد بحيث إنك لو تعمدت إسقاط البسملة لكان ذلك متصلاً اتصالاً واحداً لا تنافر فيه، وكانت كالآية الواحدة يأخذ بعضها بعنق بعض.
وأيضاً سورة القتال متممة لموضوع سورة الأحقاف، فالأحقاف فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، وقد استنفذت سورة الأحقاف وسائل الإقناع بالوسائل العقلية، قال تعالى:{اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الأحقاف:٤]، إلى آخر السورة، فأثبتت عتو أهل الكفر وجحودهم، فكانت سورة القتال بما فيها من جهاد وقواعد الحرب وتشريعاته متفقة تماماً مع نسخ وسائل الدعوة السلمية بآية السيف.
أما مناسبة سورة القتال لما بعدها وهي سورة الفتح: فلا يخفى حسن وضعها؛ لأن الفتح بمعنى النصر قال تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:١]، والفتح بمعنى النصر إنما يترتب على القتال، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بسورة الفتح فرحاً شديداً؛ لأنها بينت ما يفعل به وبالمؤمنين، في حين أن سورة الأحقاف جاء فيها قوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}[الأحقاف:٩]، والمراد بهذا في الدنيا فقط، ثم بين الله سبحانه وتعالى هنا في سورة الفتح ما سوف يفعله بالنبي عليه الصلاة والسلام وبالمؤمنين، كما هو واضح في السورة.
إذاً فسورة الفتح متصلة بصورة الأحقاف من هذه الحيثية أيضاً.
وهذا قول ابن عباس، وقد ورواه عنه علي بن أبي طلحة، ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إن آية الأحقاف: ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، منسوخة بآية الفتح:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:٢].