للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن القيم على أوائل سورة النجم]

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى.

فالمرة الأولى: كانت دون السماء: ((بِالأُفُقِ الأَعْلَى)).

والثانية: كانت فوق السماء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى).

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: كما في الصحيحين عن زر بن حبيش رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٩]، فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح).

وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:١١] قال: (رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح)، وقال البخاري عنه: (أي: رأى رفرفاً أخضر يسد الأفق).

قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة.

والتقدير على رأي ابن مسعود: ((فَأَوْحَى)) أي: جبريل، ((إِلَى عَبْدِهِ)) أي: إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرى أن الذي ((دَنَا فَتَدَلَّى)) هو جبريل، وأنه هو أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله؛ أوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إلى جبريل.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قال: رأى جبريل عليه السلام.

وفي صحيحه أيضاً عن مسروق قال: (كنت متكئاً عند عائشة رضي الله عنها فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعذليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:٢٣]، وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض.

ثم قالت: أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٠٣]؟ أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولَاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:٥١]؟ قالت: ومن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧].

قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:٦٥]، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:٣٧]).

وفي الصحيحين عن مسروق أيضاً قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري مما قلتَ.

وفيهما أيضاً قال: قلت لـ عائشة: فأين قول الله عز وجل: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٨ - ٩]؟ قالت: (إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق).

وفي صحيح مسلم أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور، أنى أراه؟!).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

وهذا الحديث ساقه مسلم بعد حديث أبي ذر المتقدم، وهو كالتفسير له.

فالحجاب هو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحجاب قابل لأن يكشف، كما سنبين.

ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح -حديث الرؤية يوم القيامة-: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه)، فإن النور الذي هو حجاب الرب تبارك وتعالى يراد به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كشف لم يقم له شيء، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] قال: (ذاك نوره الذي هو نوره -يعني: الذي هو نور الله- إذا تجلى به لم يقم له شيء).

وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخره؛ لكن هل يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية؟

الجواب

لا يلزم من ذلك أن الله لا يُرى، بل يُرى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك.

يعني: لا يُحاط بالله أبداً، وإنما يُرى بالأبصار، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وأبصارنا لا تقوم بإدراك الشمس على ما هي عليه؛ فهل نستطيع نحن أن نحدق في الشمس وننظر إلى قرص الشمس في وقت الضحى مثلاً ونحملق فيه؟

الجواب

لا، بل لو حصل ذلك قد يعمى الإنسان، فإذا كانت الشمس وهي مخلوقة لا نستطيع أن ندركها على ما هي عليه بأعيننا مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق، فالتفاوت الذي بين الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم، ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب ساخ الجبل واندك بسبحات ذلك القدر من التجلي، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً} [الأعراف:١٤٣].

وفي الحديث الصحيح المرفوع: (جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فهذا يدل على أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنع من أصل الرؤية، فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق، وليس هو نور الله عز وجل؛ لأن نور الله لا يزول أبداً، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينه وبينهم فهو الحجاب المخلوق، وأما أنوار الذات التي يحجب عن إدراكها، فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله، ولو كشف ذلك الحجاب الذي هو من نور الله لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمصدق الموقن، وأما المعطل الجهمي فكل هذا عنده باطل ومحال.

والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل عليه السلام، فقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:٨] أي: جبريل {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:٩] * ((فَأَوْحَى)) أي: فأوحى الله، ((إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: إلى عبده محمد عليه السلام، والمفهوم: أن الوحي إنما يكون بواسطة جبريل، أو ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: أوحى بواسطة جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ((مَا أَوْحَى)).

وأما قول ابن عباس: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) فالظاهر أن مستنده هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣]، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس.

وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي الإجماع على ما قالته عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فقال في نقضه على بشر المريسي الكلام على حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة)، فحكى تأويل المريسي الباطل، ثم قال: ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: (إنه لم ير ربه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وأجمع المسلمون على ذلك، مع قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] يعنون: أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام.

يعني: أن حديث ثوبان ومعاذ كانت رؤيا منام