[الرضا التام من الله عن أهل الشجرة]
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قال ابن جرير: عوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحاً قريباً، وذلك فيما قيل: فتح خيبر.
((وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا)) هي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة.
وقيل: مغانم فارس والروم.
قوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) (تحت الشجرة) متعلق بـ (يبايعونك) أو متعلق بمحذوف حال من مفعوله.
وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة، وأنها لم تكن عن خوف منه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكاد يقدر على ذلك، ويكفي فيما ترتب على ذلك من بركات هذه المبايعة ما أخرجه أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عند حفصة فقالت: (بلى يا رسول الله! فانتهرها.
فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١] فقال عليه الصلاة والسلام: قد قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:٧٢]).
وفي بعض الروايات الأخرى: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة إلا تحلة القسم)، وهو القسم الذي أقسمه الله تعالى في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:٧١]، تحلة القسم فقط لكنهم يجدونها برداً وسلاماً؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:٧٢].
وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خير أهل الأرض)، فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، فهذه الآية من الآيات التي تخزي الشيعة الرافضة قبحهم الله؛ لما في قلوبهم من بغض وسخط على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن فيهم أهل هذه الشجرة، فالله يقول: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة، ثم هؤلاء الحمقى الحاقدون يلعنون الصحابة، ويسبونهم ويكفرونهم، ويتبرءون منهم! ولو سخط على الصحابة جميع من في الأرض هل هذا يضر الصحابة؟! لا، فقد أخبر الله أنه رضي عنهم، وعثمان منهم، بل كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه -كما قال أنس - خيراً من أيديهم لأنفسهم.
قوله: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والإخلاص في مبايعتهم.
وقيل: من الإيمان وصحته، وحب الدين والحرص عليه.
وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم.
وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت، فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا.
وتفسر السكينة بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها.
وهذا كلام مرفوض؛ لأنه فسر الآية بأنه علم في قلوبهم أنهم كانوا يكرهون البيعة خشية القتال.
((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ)) يعني: جعلهم يقبلون.
يقول الألوسي رحمه الله تعالى: ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم، وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره.
قوله: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قيل: هو فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين، وكان فتحاً في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات.
وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر) وقيل: هو فتح مكة.
والقرب أمر نسبي، وقرأ الحسن وغيره: (وأتاهم) أي: أعطاهم.
قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:١٩] هي: مغانم خيبر كما قال غير واحد، وقسمها عليه الصلاة والسلام فأعطى للفارس سهمين -وكانوا ثلاثمائة فارس- وللراجل سهماً.
وفي قراءة: (تَأْخُذُونَهَا) بالتاء الفوقية، والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) غالباً (حكيماً) مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه.
((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ)) وهي ما يفيء الله على المؤمنين إلى يوم القيامة ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) يعني: مغانم خيبر ((وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح.
(ولتكون) هذه الكفة (آية للمؤمنين) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم.
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل الله سبحانه وتعالى فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في قوله: ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) علامة للمؤمنين وهي فتح خيبر، فيكون قوله: (ولتكون) عائدة على قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) وهي مغانم خيبر.
ويستأنس لهذا بما سبق أن تكلمنا عنه مراراً من أن شأن الله سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، وهي التي تسمى الإرهاصات، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، حيث رزقه الولد وهو كبير لا يولد لمثله، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:٣٨].
وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه، ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له.
وكما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك.
وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين الأمر بالجهاد، وكذلك كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة لهذا الفتح المبين، وأمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وتناظروا في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام.
إذاً: هذه إشارة على جعل فتح خيبر علامة وعنواناً لما هو أعظم وهو فتح مكة، وهذا الذي وقع بالفعل.