للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)]

قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٨].

أي: لا تقبلونه، وتنفرون منه، وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليداً، وهذا في غاية الدقة، وهو من مظاهر بلاغة القرآن الكريم.

وقوله: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)) وهل بعض الكفار يحبون الحق؟ ولماذا قال: ((أَكْثَرَكُمْ)).

الجواب

الكفار نوعان: النوع الأول: أكثر الكفار الذين يكرهون الحق ويبغضونه وينفرون منه، ولو كان واضحاً لديهم أنه حق، فهم يجحدون ويعاندون.

النوع الثاني: الأتباع الذين يتبعون هؤلاء الرؤساء أو هؤلاء السادة أو المفكرين أو المثقفين، فيكفرون تقليداً لهم، فالذي يكفر تقليداً ليس كارهاً للحق، ولكنه كافر كفر التقليد، وهو أن يأخذ غيره بزمامه كالدابة دون أن يبحث عن دليل أو يتعرف على برهان، فهذا النوع موجود ضمن الكفار الذين يكفرون بالحق، لكنهم لم يكرهوه، بمعنى: أن كفرهم إنما كان تقليداً لكبرائهم ورؤسائهم، لكن أكثرهم كانوا كارهين مبغضين للحق.

قال القاشاني: سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها، وبمن حصل الدنيا وملكها، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٣٧ - ٣٩].

كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه.

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧].

اللام في قوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا)) لام الدعاء، والظاهر أن مرادهم بذلك: سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت، فتفسير الآية: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) معناها: ادع الله لنا أن يميتنا، هذا هو التفسير الأرجح للآية.

والدليل على ذلك أمران: الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله في أنفسهم أن يميتهم لما نادوا مالكاً، ولما خاطبوه في قولهم: (ربك).

الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى بين في سورة (المؤمن) أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب؛ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:٤٩].

وقوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) أي: ليمتنا، فنستريح بالموت من العذاب.

وهذا نظير قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:١٥]، يعني: أماته.

وقوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، هذا دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية، فقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يخرجون منها.

أما كونهم لا يموتون فيها فدل عليه قوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:٧٤]، وقوله تبارك وتعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:١١ - ١٣]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:٣٦]، وقوله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:١٧].

وأما كون النار لا تخفف عنهم فقد بينه قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:٩٧]؛ لأن (كلما) صيغة عموم.

وقال تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:٣٦].

وقال: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:١٦٢].

وقال: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف:٧٥].

وقال: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:٦٥].

وقال: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:٧٧].

أما كونهم لا يخرجون منها فالآيات أيضاً كثيرة في هذا المعنى.