للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة]

أما حكمة تخصيص الغراب بكونه دابة المواراة فقد قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء.

فهذه عادة عند الغراب أنه يدفن الأشياء في الأرض، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه، وهذا غير الكلام الذي سبق من قبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى بعث غرابين اقتتلا فقتل واحد منهما صاحبه فواراه في التراب.

فهناك قول آخر أنه ما كان الغراب يدفن غراباً آخر، وإنما عادته أنه دائماً يدفن الأشياء في الأرض، فرآه يبحث في الأرض ويحفر فيها بمنقاره ورجله عميقاً كي يدفن فيها شيئاً ما لا يشترط فيه أن يكون غراباً.

والغراب هو الطائر الأسود المعروف، وقسموه إلى أنواع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما فيه من الفسق، ولأنه من أخبث الطيور، والعرب تقول: (أفسق من غراب) أي: أشد في الخبث والفسق من الغراب.

وتقول أيضاً: (أحذر من غراب) باعتباره يتصف بالحذر و (أدهى من غراب) و (أصفى عيشاً من غراب) و (أشد سواداً من غراب)، و (هذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب) لأن الغربان تتشابه بشكل عجيب، والناس الذين يعيشون في الصحراء يدركون ذلك، وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا: (وقع في أرض لا يطير غرابها).

ويقولون: (وجد تمرة الغراب) يعني: الشيء الذي ليس أحسن منه؛ لأن الغراب ينتقي أطايب التمر وأجود أنواعه ويتتبعه.

ويقولون: (أسأم من غراب)، ويقولون: (أفسق من غراب)، ويقولون: (طار غراب فلان)، إذا شاب رأسه؛ لأن الغراب أسود، وإذا أراد شخص أن يعلق شيئاً على فعل لا يقع يقول مثلاً: أزورك حين يشيب الغراب.

أي: حين يتحول لون الغراب إلى اللون الأبيض، وهذا لا يقع، أو: لا آتيك حتى يبيض الغراب.

فيقولون: (طار غراب فلان) أي: رحل السواد وحل محله الشيب و (غراب غارب) على سبيل المبالغة، كما قالوا: (شعر مشاعر) و (موت مائت) وقال رؤبة: فازجر من الطير الغراب الغارب.

قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه، وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه، ذكره صاحب المضاف والمنسوب، من مثل قوله: (ما أعرف لفلان مثلاً إلا الغراب، ولا يقع إلا مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فمقسم الضمير، وإن وقع فمروع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبرة البعير.

يعني: قرحته.

والأبيات في غراب البين كثيرة ملئت بها الدفاتر، فغراب البين يشيع كثيراً استعماله في الأدب العربي، حيث يتشاءمون من الغراب بأنه رمز البعد والسفر عن الأحباب والأصحاب وغير ذلك.

إلا أن هذا الأمر الشائع من أن (غراب البين) المقصود به الغراب الطائر في حقيقته كلام غير صحيح، وإنما (غراب البين) هو الإبل، فقد حقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي قاضي غرناطة في شرحه على مقصورة حازم أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل؛ لأن الإبل هي رمز السفر عند العرب؛ لأنها تنقل الأحباب من بلد إلى بلد، فلذلك اعتبر الغراب رمزاً للفراق والبين، وإذا قالوا: (غراب البين) فالمقصود به الإبل التي تغترب بالناس وتنقلهم من بلاد إلى بلاد.

وأنشد في ذلك مقاطيع منها: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للأباعر إنها ممن يشتت جمعهم ويفرق إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق فهنا هو يرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن غراب البين هو الطائر، فيقول: هذا جهل وهذا خطأ.

فقوله: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق يعني: ينحون باللائمة، ويذمون هذا الغراب الطائر الذي ينعق، ويتشاءمون منه باعتباره غراب البين، ويقول: (ما الذنب إلا للأباعر) أي: الذنب في البين والفراق هو للجمال وليس لهذه الطيور (إنها مما يشتت جمعهم ويفرق)، أي: الإبل هي التي تشتت جمعهم وتفرقهم بالأسفار.

وقوله: (إن الغراب بيمنه تدنو النوى) يعني: هو ليس مشئوماً، ولكنه له يمن.

فبيمنه تدنو النوى، أي: يقترب البعاد (وتشتت الشمل الجميع الأينق) النوق أو الجمال أو الإبل هي التي تشتت المجتمع وتفرق الناس وتسافر بهم.

وأنشد ابن المسناوي لـ ابن عبد ربه: زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر إن لم يصدقه رغاء بعير فقوله: (زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر) لأن الناس يتشاءمون من صوت الغراب، فيقول: قلت أكذب طائر) فلم يقل: إنه علامة على مفارقة الأحباب؛ لأن صوت الغراب إذا لم يقترن به رغاء البعير الذي يحمل الأحباب ويسافر بهم فإنه يكون كذباً ولا شؤم فيه.

فهذا كله مما يؤيد أن غراب البين المقصود به الإبل وليس الطائر.