[كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على صفة المعية]
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله.
وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم.
وهكذا عمن ذكر معه وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في الرد على الجهمية.
يعني: فالسلف ما تكلموا في موضوع الصفات بالطريقة التي وجدت فيما بعد، لكن السبب والمسئول عن ذلك أهل البدع؛ لأنهم هم الذين أنشئوا الكلام ببدعهم، فاضطر العلماء للكتابة وللرد كما فعل الإمام أحمد، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من أئمة السلف، فإذا كنا نحن في واقع مثل واقع السلف فالأصل ألا نتكلم، لكن إذا كنا محاطين بالشبهات من كل جانب بمذهب الأشاعرة وتأويلاتهم، فنحن نضطر لأن نتعلم ما يدفع عنا شبهات أهل البدع.
يقول: ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨]، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء؛ لكان التعميم يناقض التخصيص.
يعني: أن آيات المعية العامة تتعارض مع الآيات التي تفيد المعية الخاصة، وقد بين أن هذا التعارض إنما يكون إذا قيل إنها معية بالذات، وقد بين ذلك فقال: فإنه قد علم أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا)، أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار.
يعني: هل يفهم أحد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الغار: لا تحزن إن الله معنا، أن الله مع الرسول عليه السلام وأبي بكر وأبي جهل وكفار قريش ممن كانوا خارج الغار؟ لا.
لأن هذه معية خاصة بالنبي عليه السلام وأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
يقول: كذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨]، لا شك أن هذه معية خصهم بها دون الظالمين والكفار.
كما أن لفظ المعية لم يرد في لغة العرب ولا في شيء من القرآن ويراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى.
يعني أن بعض الناس يقول: إن المعية معناها أن الله موجود في كل مكان، وللأسف الشديد أنهم يقولون ذلك عن غفلة وجهل، وهذا انحراف في العقيدة، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه، بل نحن ننكر على النصارى زعمهم أن الله سبحانه وتعالى حل في بدن المسيح أو أن الله حل في مريم، فكيف نقول إن الله يحل في كل الأماكن أو أن الله موجود في كل مكان؟ هذا من الجهل بالله سبحانه وتعالى، ونسبة ما لا يليق به إليه، لأن ذلك يقتضي أنه يوجد في أماكن النجاسات وفي غيرها من الأماكن التي لا تليق به، فالله سبحانه وتعالى بإجماع السلف بائن من خلقه، لا يحل في شيء من خلقه تبارك وتعالى.
والمعية في لغة العرب وفي لغة القرآن لا يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فحينما يقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:٢٩]، هل المعية تفيد اختلاط ذات النبي عليه السلام بذوات الصحابة؟ لا.
بل كل واحد له ذاته! وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١٤٦]، وقال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩]، وقال: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:٧٥]، ومثل هذا كثير؛ فامتنع أن يكون قوله: (وهو معكم)، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق.
وأيضاً: فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، فكون الله تعالى مع العباد لا يتنافى مع علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد.