للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)]

ثم عطف سبحانه وتعالى علة ثانية لذلك الإيحاء فقال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣].

قوله: (ولتصغى إليه) الهاء تعود إلى: (زخرف القول)، وقيل: الهاء تعود إلى الوحي في قوله: (يوحي بعضهم) أو إلى الغرور أو إلى العداوة؛ لأنها بمعنى التعادي.

وأصل الصغو هو الميل، يقال: صغت النجوم صغواً: أي: مالت، وصغت الشمس: أي: مالت للغروب، وصغت الإناء: أملته، وأصغيت الإناء: أملته ليجتمع ما فيه، وتقول: أصغيت إلى فلان، بمعنى: ملت بسمعي نحوه كي يحسُن الإنصات.

ومن ذلك قوله تبارك وتعالى هنا: (ولتصغى إليه) أي: إلى الزخرف أو الباطل أو الوحي أو الغرور أو العداوة، يعني: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغرهم به، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم، أي أنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الواجب من الإيمان به.

قوله: (وليرضوه) يعني: يرضوه لأنفسهم بعدما مالت إليه قلوبهم.

وقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون، يعني: من الآثام ومن القبائح التي لا يليق ذكرها، فكأن القرآن أشار إلى أن هذا الذي يقترفونه من أمور قبيحة لا يليق ذكرها، حتى إنه أعرض عن ذكرها، وكنى بها بقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: الذي يقترفون بسبب العقيدة الفاسدة التي دخلت واستوطنت في قلوبهم واستقرت في أفئدتهم، فإنها تثمر أعمالاً قبيحة تصل إلى حد من القبح لا يليق أن نذكرها الآن في هذا السياق، ولذلك قال: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني أشاء من القبائح لا يليق ذكرها.

والاقتراف بمعنى الاكتساب، يقال: خرج يقترف أهله، أي: خرج يكتسب لهم، ومن العبارات المشهورة: الاعتراف يزيل الاقتراف.

فإذا اقترق إنسان ذنباً واعترف كما في الحديث: (أبوء لك بنعتك علي)، أي: أقر وأعترف فإن اعترافه يزيل الاقتراف، أي: يزيل ما اكتسبه الإنسان من الإثم.

قال الخشني: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣] فتقوى غوايتهم ويتظاهرون بها، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي صلى الله عليه وسلم، فتزداد قوة كماله، وأيضاً تهيج بسببه دواعي المؤمنين؛ لأن الاستفزاز حين يحصل من أعداء الدين يهيج قلوب المؤمنين، وتحمى قلوبهم بالغيرة على حرمات الدين، فهذه من الحكم المترتبة على أن سلط الله الشياطين على محاربة الدين، ففيها تهييج بدواعي الغيرة على الدين في قلوب المؤمنين، وكذلك الذين في قلوبهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليه كمالاتهم، فهذا فيما يتعلق بمعنى هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:١١٣].

وقد ذكرنا أن الإصغاء هو الميل، يقول الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء أي: ميل وانحراف.

فالسفيه يزيغ عن المحكمات؛ لأنه يميل إلى الأمور المشتبهة.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة -حيث قال تعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) - مع أن قبائحهم كثيرة إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم، فإن لذَّات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل.

وهذا فيه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى في سورة المعارج: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:٢٣ - ٢٨].

والشاهد قوله: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:٢٦] فالتصديق بيوم الدين والإيمان بالآخرة يترتب عليه هذه الثمرة، فهو إيمان يثمر أنهم من عذاب ربهم مشفقون؛ لأنهم يؤمنون به، فكل ما يؤدي إلى العذاب حتى لو كان محبباً إلى أهوائهم في الدنيا فهم يحترزون منه؛ لأنهم ينظرون إلى العاقبة السيئة، كما قال الشاعر: أماني كانت لأهلها في الشباب عذاباً فصارت في المشيب عذاباً فالمؤمن لا ينظر إلى بادي الأمور، إنما ينظر إلى العاقبة.

فهذا التنبيه في الحقيقة في غاية الأهمية، وهو بيان الحكمة في عدم وصفهم بالإيمان بالآخرة خاصة دون ما عداه من الأمور التي يجب الإيمان بها؛ لأن الإنسان ما دام يؤمن بالآخرة فهو يزن أفعاله قبل أن يفعلها، حتى لو كان فيها آلام وفيها معاناة لكنها مما أمر به شرعاً فإنه يتحمل ذلك في سبيل اللذة الأخرى في الآخرة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا يصلح طريق الجنة إلا بالمكافحة وبالمجاهدة وبالمحاسبة، أما النار فطريقه سهل جداً، فمن أراد أن يدخل النار فما عليه إلا أن يتبع الشهوات ويطلق لنفسه العنان ويتبع الهوى، وفي هذه الحالة سهل جداً عليه أن يدخل النار، فالنار حفت بالشهوات، والشهوات حجاب يحجب النار، والشهوات كالفراش التي تحجب الضوء، فإذا اقترب أحد من الضوء تحرقه هذه النار، فلذلك جاءت الإشارة هنا في قوله: (الذين لا يؤمنون بالآخرة) إلى الذين يجترئون على اقتحام الشهوات؛ لأنهم بعدم إيمانهم بالآخرة يحجبون عن الخوف من سوء العاقبة في الآخرة، فهم لا يؤمنون بالنار ولا بالعذاب، فما الذي يردعهم؟! أما الذين يؤمنون بالآخرة فهم يتحملون المكاره؛ لأنه لا سبيل إلى الجنة إلا بتحمل هذه المكاره.

يقول: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم.

يعني: ما السر في أنهم يصغون ويميلون إلى ما توحيه إليهم شياطين الإنس والجن من زخرف القول؟ يقول: فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة -يعني: في الدنيا- بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فكانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات؛ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها، أفاده أبو السعود العنبي.

والواقع هو أقوى ما يؤيد هذا الكلام، فأنت إذا تأملت أحوال الكافرين وتعظيمهم للدنيا واهتمامهم العظيم بها علمت أن الدنيا صارت إلهاً يعبدونه ويتبتلون وينقطعون لعبادته بأقصى ما يستطيعون؛ لأنهم لا يرون لهم حياة إلا في الدنيا فقط، ويرون أنه ما الحياة إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وبعد ذلك ليس هناك أي حساب، فمن يعتقد هذا فما الذي يجعله ينزجر عن شرب الخمر، أو فعل الفواحش، أو السرقة، أو الكفر، أو غير ذلك من الأفاعيل؟! وما الذي يردعه؟! فهو لا يؤمن من الأصل، وحينئذ ينعكس هذا في سلوكه.

فلذلك يتعجب الإنسان جداً إذا رأى المسلم الذي يؤمن بالآخرة يستوي مع الكافر الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة في تصرفاته! فهؤلاء القوم إذا وقعوا في الشهوات بهذه الطريقة وفي الفساد فالسبب في وقوعهم هو الذي ذكرناه؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:١٥ - ١٦]؛ لأنه ما دام لم يؤمن بالآخرة فلابد من أن يتبع هواه؛ لأن النفس فيها ميل إلى هذه الأشياء المحرمة وإلى هذه الشهوات التي عاقبتها النار، وهو قد لا يدرك أن عاقبتها النار، وقد لا يصدق بذلك، فما الذي يمنعه من أن يرتع كالحيوانات والبهائم في هذه الحياة البهيمية الحيوانية؟! فكيف بالمسلم الذي يؤمن بالآخرة ومع هذا يحرص على أن يتعاطى ما يسمى بالدش وبالفيديو ونحو ذلك من مظاهر الفساد؟! فهل الذي عنده إيمان بالآخرة لا يستحضر أنه إذا أنصت لهذه الأشياء تبعده عن الله؟! والذي يجعل الإنسان يجلس أمام الأفلام والمسرحيات وسائر أنواع الفساد هل هو دافع العقل والإيمان أم دافع الهوى؟! وكذب من يقول: إن دافعه هو العقل أو الإيمان أو التقوى.

بدليل أنك إذا سألته أن يصدقك في الإجابة ويبحث عن معدل إيمانه، وهل كان قبل أن يجلس أمام هذه الأفلام أو هذه الأشياء أعلى إيماناً أم بعدها، وسألته أن يقيس إيمانه قبل أن يجلس أمام الأغاني أو المسرحيات أو الأفلام ويقيس إيمانه بعدما ينصرف، وكيف كان حاله، وهل سيزيد إيمانه وخشيته وتقواه ويبكي من خشية الله أم أنه ربما يوصله ذلك إلى الكفر إذا كان في هذه الأشياء استهزاء أو هجوم على المتدينين وطعن في شريعة الله سبحانه وتعالى، أو كان فيها -على الأقل- ما يخدش إيمانه في الوقوع في المعاصي كزنا النظر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو غير ذلك من البلاء، كل ذلك لو سألته عنه لأجابك بأنه ينقص إيمانه بعد مشاهدة تلك الأمور، ويقسو قلبه، وتقل خشيته وتقواه.

فما الدافع الذي يدفعه إلى هذه الأشياء؟

و

الجواب

أنه الهوى، وبذلك ي