[الأدلة على منع مصافحة النساء]
وهنا نمر على أدلة هذه المسالة باختصار شديد، وهي مسألة: مصافحة النساء الأجانب، فقد قلنا من قبل: إن المرأة الأجنبية هي كل من عدا المحارم من النساء، والمحارم: أصحاب القرابة الرحمية المحرمية، وهم الذين لا يحل نكاحهم لشدة القرابة، فيكون الرجل منهم محرماً لقريبته في أي سفر كالزوج أو الأب، وكما قلنا من قبل: إن حقيقة المحرم من النساء هي التي يجوز النظر إليها والخلوة بها، والسفر بها، فهي كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمته، سواء المحرمات بالنسب، أو المحرمات بالمصاهرة على التفصيل المعروف.
وبعض الناس يسأل ويقول: هل يجوز أن أصافح شقيقة زوجتي؟ فهو يتصور أنه ما دام يحرم عليه الجمع بينهما فهي محرم له يجوز مصافحتها!! والضابط في ذلك: أن كل النساء اللاتي هن محرمات عليك تحريماً مؤقتاً لسن محارماً لك، فزوجة الجار مثلاً محرمة عليك، لكنه تحريم مؤقت، بحيث إذا مات عنها أو طلقها يمكن أن تتزوجها، فالأصل في الفروج التحريم، والأصل أن كل النساء حرام عليك.
فيختلط الأمر على بعض الناس أحياناً، ويظن أنه يجوز له أن يصافح أخت زوجته؛ لأنه لا يقدر أن يجمع بينهما.
ولا يقال للمرأة إنها محْرم إلا أن يحرم الزواج منها على التأبيد كالأم والأخت والبنت وأم الزوجة والعمات والخالات.
أما بالنسبة لأدلة ذلك فمنها: حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس جلد امرأة لا تحل له) يعني: لا يحل له نكاحها، وهذا مجرد مس، ويصدق وصف المس بما كان لغير شهوة، فكيف بما فوقه؟ الدليل الثاني على تحريم مصافحة الأجنبية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه).
متفق عليه.
يعني: أن من الناس من يكون زناه حقيقياً، ومنهم من يكون زناه مجازياً وذلك بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد، وقوله: (واليد تزني وزناها البطش) لا يلزم أن يكون معنى البطش الضرب، فالمس يدخل فيه، وذلك بأن يمس امرأة أجنبية.
وكذلك هذه الأحاديث التي أشرنا إليها من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، تقول عائشة: (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك، كلاماً، ولا والله! ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك)، فإذا كان هذا في حق المعصوم عليه السلام فكيف في حق غيره؟ ونساء الأمة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام محارم، فكيف بمن يخالف في ذلك؟ وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا يملكها) أي: إلا امرأة يملك نكاحها.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء في البيعة).
وفي حديث أميمة بنت رقيقة -وأبوها عبد الله بن بجاد، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلن: يا رسول الله! نبايعك على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم بنا نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وفي بعض الروايات: (لا أمس أيدي النساء).
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]، فإذا امتنع عن المصافحة في حال المبايعة التي تقتضي المصافحة فهذا يدل على تحريم ذلك على الأمة بطريق الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مشرع لهذه الأمة، ولا شك أن أخف أنواع اللمس هو المصافحة، ومع ذلك امتنع منها النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة، فهذا يسقط كلام بعض الناس القائلين: إن هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم! كيف وهو صاحب العصمة الواجبة، فإذا كان يحل له ذلك فلماذا يحرم على غيره!! وقد سدت الشريعة ذرائع الافتتان، وحرمت هذا المس؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع والريبة.
يقول صاحب مراقي السعود: سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم وبعض الناس يعترضون على ذلك ويقولون: بأن هذه مثل أختك، وهذا مع الصغيرة، وأما مع الكبيرة يقولون: هذه مثل أمك، فيصافح النساء بحجة أن قلبه طاهر، ونيته سليمة.
فالجواب عن ذلك: أن الشريعة تمنع الفعل المؤدي إلى الفساد بغض النظر عن نية صاحبه، فهي تنظر إلى مآلات الأفعال، فإذا كان المآل فاسداً كان الفعل المؤدي إليه ممنوعاً، سداً لذريعة الفساد وإن لم يقصد الفاعل الفساد بفعله.
فإذا خفي القصد والنية فالراجح عدم اعتبار القول؛ لأن النية أمر غير منضبط، فقولهم عند مصافحة النساء: هذا قلبه سليم! فنقول: وكيف نعرف أن قلبه سليم أو غير سليم؟ فقد يكون قلب أحدهم سليماً، والثاني قلبه مريضاً، وفي هذه الحالة مادام أن هذا الأمر غير منضبط فلابد أن نعتبر المنضبط؛ لأن الشريعة جاءت لكل الناس وليست لطائفة مخصوصة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإنه يحرمها مطلقاً، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع يقضي بإفضائها، فيرجح جانب إفضائها إلى التلذذ بذلك، فيحرم على الإنسان، فهذا الكلام المتعلق بهذه المسألة باختصار.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:١٢] قالت: كان منه النياحة.
أي: مما أخذ عليهن العهد به.
ولفظ البخاري عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علي: ((أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا))، ونهانا عن النياحة).
وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: (كان مما أخذ علينا ألا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخدش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً، ولا ندعو ويلاً).
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ عليهن يومئذ ألا ينحن، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله! إن لنا أضيافاً، وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت).
وهذا ليس متصلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال ألكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:١٢] أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف، قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف، وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين.
وقد ورد ذلك صريحاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيُّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط هذا على نبيه؟! وأعتقد أن الأخبار التي ذكرناها من قبل أضبط، وهي أن هذا القيد للبيان.